فعلتها الصين مجدداً. وعلى عادتها، تبدأ السباق متأخرة وتتقدّم من الخلف إلى الأمام عبر تقليد أفضل ما لدى الآخرين. وبدأب، تصل إلى مجاراتهم، بل تقف على حد المساواة معهم. وبعدها، يأتي دورها لتكون في المقدّمة. فعلت ذلك في صناعة الحاسوب، تحديداً ال «سوبر كومبيوتر» Super Computer (الكومبيوتر الخارق) الذي يوصف بأنه «جوهرة التاج» في صناعة الحواسيب، لأن من يتفوّق فيه يحوز المرتبة الأعلى في علوم المعلوماتية والاتصالات، بل يكون له يد عليا علميّاً في العلوم كلها والصناعات والاقتصادات المرتبطة بها. لم تتح الولاياتالمتحدة لدولة أن تتفوّق عليها في ال «سوبر كومبيوتر». وفي ثمانينات القرن العشرين، اعتلت اليابان قائمة منافسي الولاياتالمتحدة في صناعات شتّى، خصوصاً الإلكترونيّات، إضافة إلى اجتياح استثماراتها بلاد «العم سام». وفي ظل يأس أميركي من إمكان الهزيمة اقتصادياً وتكنولوجيّاً أمام العملاق الياباني، حصلت منافسة بين البلدين في ال «سوبر كومبيوتر». وآنذاك، أثبت «الكومبيوتر الخارق» الأميركي «كراي» أن لا نظير له عالميّاً، فاطمأنت عوالم الاقتصاد والعلوم والصناعة والمجتمع والعسكر إلى استمرار التفوّق الأميركي، وهو ما كان فعليّاً. زمن المنافسة الشرسة تعيش الولايات المتحدّة وضعاً مشابهاً في الهزيع الأول من القرن ال21 مع الصين، مع فارق ضخم: استطاعت الصين هزيمة أميركا في مضمار ال «سوبر كومبيوتر». وحدث ذلك للمرّة الأولى مع كومبيوتر «تيانهي 2» في 2013. ولأن المسابقة بين الحواسيب الخارقة تتكرّر كل ستة شهور، هناك حال من التغالب بين الندّين الأميركي والصيني. وفي كل مرّة تتفوّق الصناعة الصينية، تظهر دهشة واسعة لأن الصينيين لا يستخدمون من المكوّنات الإلكترونيّة سوى ما يقلّدونه نقلاً عن غيرهم، لكن تألّقهم يظهر في التنسيق والهندسة والربط والتصميم العام لما يصنعونه. بكلمتين: تقليد الآخر والتفوّق عليه عبر تطوير التقليد! وإذ تأخّرت الصين في دخول «النادي الدولي للفضاء» (وهو إشارة مجازيّة إلى الدول التي تصل علميّاً إلى حدّ المشاركة في مغامرة اكتشاف الكون)، لكنها تسرّع خطاها كي تصل إلى الصف الأول فيه. سلاحها؟ التقليد ثم تطوير التقليد. وأخيراً، أعلنت الصين أنها تمكّنت من ربط تلسكوب فضاء هو الأضخم تاريخيّاً في النوع الذي يعمل بموجات الراديو، مع أحد أسرع الحواسيب الخارقة التي صنعتها. ويعمل الكومبيوتر على إنجاز حسابات فلكيّة معقدة يتحصّل عليها التلسكوب «فاست» بواسطة موجات الراديو، ما يتيح التدقيق المباشر بتلك المعطيات وتالياً التحكم بنسق عمل التلسكوب كي يحصل على مزيد من المعطيات المفيدة. وهناك هدفان أساسيّان لذلك التركيب تلسكوب- كومبيوتر خارق، يتمثلان في البحث عن حياة في الفضاء الخارجي واستكشاف «المادّة المظلمة» وطاقتها Dark Matter & its Energy. وما زالت المادة/ الطاقة المظلمة حقلاً بكراً أمام العلماء، وهي تمثّل الحدّ الأخير حاضراً في التفكير العلمي بالكون وأصله ونشأته وتطوّره ومسار مجرّاته وغيرها. ويتوقّع أنّ يجمّع الصحن العملاق للتلسكوب الراديوي (قطر فتحته 500 متر)، مع الإشارة إلى أن الحجم الإجمالي للتلسكوب وحاسوبه الخارق يفوق حجم 30 ملعب كرة قدم سويّة. سباق خارق حاضراً، يعتبر العلماء أنّ أسرع كومبيوتر خارق يعمل في علوم الفلك هو «أتيروي» في اليابان. وتمّ تحديثه السنة الماضية ليتمكّن من معالجة ألف «تيرافلوب» Teraflops من البيانات، ما يساوي ألف تريليون عملية حساب في الثانية. وغني عن القول إنّ الكومبيوتر الخارق «سكاي آي- 1» في تيليسكوب «فاست» الصيني أسرع من نظيره الياباني. وفي أحاديث إعلاميّة متفرّقة، أوضح رين جينغيانغ، نائب رئيس شركة «سوغون» المختصة بالحواسيب الخارقة في الصين، أنّ ذروة أداء كومبيوتر «سكاي آي 1» الخارق ستزيد عن ألف تيرافلوب. وحينها، سيكون قادراً على معالجة الكميّات الهائلة من البيانات المتأتية من التلسكوب الراديوي «فاست». ويتمركز حاسوب «سكاي آي- 1» في مرفق متّصل مع التلسكوب، بل تربطه به وصلة تُستَعمَل لنقل بيانات عالية السرعة بين الاثنين، تتمتّع بقدرة على نقل ما يصل إلى مائة غيغابايت من البيانات في الثانية. ومع أنّ «سكاي آي 1» يتفوّق كثيراً عن غيره من الحواسيب الخارقة، إلا أنّه لم يدنُ بعد من مستويات أداء أسرع كومبيوتر خارق في الصين. إذ لا تزيد سرعته عن جزء ثلاثيني من سرعة كومبيوتر «تيانهي 2» الخارق، الذي بنته «الجامعة الوطنية لتكنولوجيا الدفاع» في «غوانغجو». لم تكشف وسائل الإعلام الحكومية تكلفة «سكاي آي 1»، لكنّ من المستبعد أن تكون رخيصة. يكفي تذكّر أنّ تكلفة كومبيوتر «تيانهي 2» وصلت إلى ما يزيد على 2.5 بليون يوان (402 مليون دولار)، وتزيد فاتورة الكهرباء المتأتية عنه على ال400 ألف يوان (64 ألف دولار) يوميّاً. في بحر من الفقر تسبّب بناء الكومبيوتر الخارق الجديد في مقاطعة «غويجو» الصينية ببعض الانتقادات في شأن ارتفاع تكاليف المشروع وموقعه النائي. وفي ذلك السياق، يشار إلى أنّ المقاطعة من بين الأفقر في الصين، ويعيش ربع سكّانها تقريباً ما دون عتبة الفقر الرسميّة المحدّدة عند 2300 يوان (370 دولاراً) سنويّاً. ولفت نقّاد إلى أنّ الصين تملك بعضاً من أسرع الكومبيوترات في الكرة الأرضيّة، لكنّها آلات لا تستخدم معظم الوقت بسبب ندرة المشاريع التي تحتاج إلى قدرتها الفائقة في الحوسبة. وكذلك رأوا أنّ استعمال كومبيوترات على غرار «تيانهي 2» لمشروع «فاست» سيأتي بجدوى اقتصاديّة أكبر من تلك الناتجة من بناء آلة جديدة باهظة الثمن في منطقة نائية. في المقابل، أشار عالم فلك في بيجينغ إلى أنّ الحواسيب الخارقة الموجودة حاليّاً في الصين، لا تتناسب مع حاجات مشروع «فاست». وكذلك بيّن باحث فضاء لم يكشف عن هويّته، أن تكلفة تحويل البيانات في الصين لامست مستويات باهظة خياليّة بسبب احتكار شركات الاتصالات الحكومية لتلك العملية. ولفت إلى أنّ «تكلفة تحويل البيانات من «فاست» في «غويجو» إلى «تيانهي 2» المستقر في مقاطعة «غوانغجو» ربما تتخطّى تكلفة بناء كومبيوتر جديد. وأضاف أيضاً أنّ «تيانهي 2» ليس مصمَّماً للحسابات الفلكيّة وربما لا يتمكّن من تشغيل البرنامج المعتمد عادةً لأداء ذلك النوع من العمل. في ذلك السياق، أوضح جانغ بيهنغ، مدير «مركز بحوث الكومبيوترات العالية الأداء» التابع ل «الأكاديمية الصينيّة للعلوم»، أنّ المتطلّبات الحسابيّة لتلسكوب «فاست» ستتخطّى 200 تيرافلوب يومياً. وأضاف أنّ «سكاي آي- 1» صُمّم خصيصاً كي يكون قادراً على أداء ذلك العمل الفضائي المتطوّر.