تعرضت عشرات الآلاف من أجهزة الكومبيوتر في نحو 100 دولة لهجوم إلكتروني استخدم أدوات للتسلل الإلكتروني يُعتقد أن وكالة الأمن القومي الأميركية طورتها. وخدع المتسللون ضحاياهم ليفتحوا برامج خبيثة في مرفقات برسائل إلكترونية مؤذية بدت كأنها تحتوي على فواتير وعروض لوظائف وتحذيرات أمنية وغيرها من الملفات القانونية. وشفّر برنامج «رانسوموير»، أو «الفدية الخبيثة»، بيانات أجهزة الكومبيوتر وطالب بمبالغ بعملة «بتكوين» تساوي بين 300 و600 دولار كي تعود الأجهزة إلى العمل في شكل طبيعي. وقال باحثون يعملون لدى شركة «أفاست» لبرامج الأمن الإلكتروني إنهم رصدوا 57 ألف إصابة في 99 دولة، وكانت روسيا وأوكرانيا وتايوان الأكثر تضرراً. ومن الهجمات المؤثرة ما حصل في بريطانيا، حيث اضطرت مستشفيات وعيادات لصرف المرضى بعدما فقدت القدرة على دخول أجهزة الكومبيوتر. وأعلن ناطق باسم شركة رينو الفرنسية لصنع السيارات أن الشركة أوقفت الإنتاج في مواقع عدة أمس، للحدّ من أضرار الهجوم. والأرجح أن ضربة الفيروس المزدوج «وانا ديتيكتور»- «إتيرنال بلو»Wanna Detector- Eternal Blue هي نهاية تاريخ من الأوهام عن أمن الإنترنت والشبكات، التي طالما روّجت لها شركات المعلوماتية العملاقة، وتبنّتها الدول الكبرى، ونشرتها جزءاً من العولمة المنفلتة. فمن يصدّق أنّ برامج الأمن المعلوماتي التي تصنعها الشركات العملاقة، تستطيع حماية الأفراد والمؤسّسات؟ يكفي القول: كل ضربة فيروسات كانت أشد قوّة من سابقتها، وكل الأعداد عن البيانات التي تطاولها لم تتوقف عن الارتفاع. وكذلك تصاعدت نوعيّة الهجمات لتصل إلى حدّ الاستيلاء على نظام «سويفت» للتبادل المالي العالمي عام 2016. على رغم ذلك، بقيت كليشيهات الأوهام من دون تغيير: لا بد من تسليم الأمور للشركات العملاقة في التقنية. لا بد من تحمّل المخاطرة في استعمال التقنية. سنصنع برامج أقوى للحماية. لمَ لا يطرح السؤال عن دور الشركات في الضعف المتواصل للشبكات والكومبيوترات؟ وببساطة، أليست الاختراقات تعريفاً هي الدخول عبر أخطاء في برامج تلك الشركات؟ واستطراداً، لماذا لا نجرب نوعاً آخر من المخاطرة: نشر التشفير بين صفوف الجمهور الواسع؟ تستخدم الشركات والحكومات، حجة الإرهاب لرفض نشر التشفير. ولكن الحقيقة أنّ الفيروسات الإلكترونيّة تنتشر لأن الجميع يستعملون البرامج نفسها، فإذا اكتشفت ثغرة فيها، يسهل صنع فيروس ليدخل منها إلى ملايين الكومبيوترات التي تستعمله! وإذا كان نظام «ويندوز» يدير ما يزيد على 90 في المئة من كومبيوترات الكرة الأرضيّة، فإن اكتشاف ثغرة فيه يتيح صنع فيروس يدخل كل تلك الكومبيوترات. وتزداد الصورة قتامة مع تدخّل أجهزة الاستخبارات الكبرى الراغبة في معرفة كل شيء عن كل شخص ومؤسسة وحكومة، بل حتى كل آلة فيها نظام إلكتروني. وأعطت فضيحة التجسّس الإلكتروني الشامل الذي تمارسه «وكالة الأمن القومي» الأميركيّة على الكرة الأرضية دليلاً ساطعاً على ذلك. تعطي ضربة «وانا ديتيكتور»- «إتيرنال بلو» نموذجاً عن ذلك المشهد الذي يقصي الجمهور ويصادره لمصلحة استمرار الهيمنة المنفلتة للشركات والحكومات معاً. فقد صنعت فيروس الفدية «وانا ديتيكتور» وكالة الأمن القومي ليكون سلاحاً لها في الفضاء الإلكتروني، وسرعان ما تسرّب من عالم الاستخبارات ليصل إلى موقع «ويكيليكس» الملتبس في علاقته مع الحكومات والاستخبارات، فانكشف سرّه مطلع 2017. ويرجح أنّ الضربة استفادت من برنامج «إتيرنال بلو» الذي صنعته وكالة الأمن القومي أيضاً كي تخترق الأجهزة الإلكترونيّة التي تعمل بنظام «ويندوز إكس بي». وواضح أنّ الانتشار الواسع لذلك النظام أغرى الوكالة بصنع برنامج لاختراقه، ثم تعرّفت إليه «مايكروسوفت» مطلع 2017. وعلى غرار الفيروسات البيولوجيّة، أدّى المزج بين نوعين من الفيروسات إلى ولادة ثالث أشد قدرة على التدمير، فكانت الضربة التي هزّت 99 دولة دفعة واحدة وطلبات الفدية. والمثير أن طلب الدفع بالعملة الإلكترونيّة «بتكوين» يدفع إلى التفكير مباشرة بالصين التي تروج فيها تلك العملة. هناك عالم اجتماع كتب في القرن التاسع عشر عن دور اللص في ظهور صناعة المفاتيح والأقفال. وحاضراً، تصر الحكومات والشركات على منع حصول كل فرد «مفتاح وقفل» لصد اللص، بدعوى أنّ ذلك يمنع الشرطة من دخول المنازل من دون إذن أصحابها أيضاً!