«عندما أرى كل هذا القدر العظيم من الجماليات في الأعمال الإبداعية العالمية أتوقف في تساؤل مهم أمام ذاتي وأمام مسؤولية أن تكتب وأن تقدم رؤاك للمشهد. هذا العائق الكبير خلف امتناعي، أو بالأحرى صمتي الطويل لأسجل تجربة ما في قالب حكائي ومنه إلى جنس الرواية». بهكذا موقف تقدم الدكتورة هناء حجازي رؤيتها حول الكتابة السردية وانقطاعها عن الكتابة لأعوام، ثم عودتها بكتاب آخر يكشف عن الهاجس الدائم لديها حول المرأة وصوتها واستمرار دفاعها عن حقها في الحضور والكتابة وحتى العيش. عُرفت الكاتبة حجازي بصوت هادئ وتجربة تكاد لا تفتعل المشاكسات ولا تلوح بالتحدي أو تقتحم المساجلات، كانت تكتب لأنها مملوءة بهذا الهم متى تمكنت الكتابة من الطريق إليها، وتتوقف لأنه المزاج الذي يعد الذريعة التي قتلت الإبداع والمبدعين السعوديين بحسب وصفها. وفي هذا الحديث تكشف حجازي ل«الحياة» عن اللحظة التي دفعتها لمعرفة قيمة الوفاء للكتابة واحترام وقتها، مستشهدة بكتابها «مختلف» الذي رأى النجاح منذ أول إصدار وحتى اليوم، كما تعدد علل الثقافة في المشهد السعودي، وأهمها تفشي الشأن الأكاديمي داخل مؤسسات الثقافية... فإلى نص الحوار: أين أنتِ كل هذا الوقت منذ «بنت» وحتى «مختلف»؟ - كنت أقرأ، وكنت أجدني في معمل الحياة جادة في جانب، ربما من الناحية العملية، أما عن الكتابة فهناك علّة كبيرة تجابهنا منذ وقت باكر، وهو تعليق مشاريعنا على اللحظة التي تأتي مصادفة، وهذا لا صلة له إلاّ بالمزاج الكتابي الذي علقنا عليه كل أسباب التأجيل والتسويف. للأسف الإبداع الجمالي بقدر ما هو حال خاصة ونتاج فردي محض، إلا أنه يشترط الانضباط والوفاء له في شكل تام وإخلاص منقطع النظير. لكننا وجدنا في ظروف لا تحرض على هذا الاشتغال أو هذا الانضباط، إضافة إلى استعدادنا للإهمال أكثر منه للإخلاص مع الجماليات التي تواجهنا وتلح علينا لكتابتها. إنني أكتب منذ 1988 في الصحافة وبعض المجلات، لكن إصدار كتاب هو ما يخفف الحماسة، وأتت تجاربي متقطعة بين أول مجموعة قصصية بعنوان: «بنت» وحتى «هل رأيتني؟ كنت أمشي في الشارع». كنت أكتب وأنتظر أعواماً كثيرة لأبدأ في مشروع جديد، وهكذا. ماذا عن مجموعة «بنت»، وتحديداً ذلك الصوت الناعم الذي يكاد يتخفى من فرط الخوف مرة والحياء مرة أخرى في صورة لا تنبت عن الفتاة السعودية بجمل مكونها الثقافي والمحيط الذي يسوّرها بقلاعه القديمة؟ - لا ليس خوفاً ولا حياء، بل جدية الكتابة تدفعني لإنصاف تلك الفتاة التي أعرف أن لها تحدياتها وتطلعاتها واحترام قدراتها في الوقت نفسه، ولأنني وجدت النافذة التي تبرر لي فرصة الحضور وتوقع الرغبة إلى كشف سواتر لم يخترقها أحد من قبل. كنت أظن وقتها أن الحجاز بحاجة إلى صوت فتاة سمّت كتابها الأول «بنت»، الكتاب الذي جاء بتجربة قال عنها بعض النقاد إنها مغايرة ومختلفة، اشتغلت على الصوت المقبل من حاجة الفتاة الحديثة عبر الأسئلة النافذة في اليومي، والمكاشفة المهيأة إلى احتمالات الصدام والرفض. وأنا فخورة جداً بهذه المجموعة، فحتى اليوم ما زلت أقرأها وأجدها معبرة بصراحة ووضوح من دون خفوت عن هذا الجيل، وحين خرجت كانت تعبيراً تاماً عن فتيات في عمر أقل من 20 عاماً، وأعتقد أن هذه المجموعة الصغيرة ما زالت كذلك بالنسبة إلى فتيات في العمر ذاته، والسر في ذلك أن هذه المجموعة تمثل لي مواجهة أولى مع علل اجتماعية ما زالت تهز الجراح التي تولدّها في شكل يومي وملاحظ في مجتمعنا. أليس من المكونات الثقافية مجموع ما يحمله المكان من فتوحات على الآخر وما يستقطبه منه وما يبرزه عبر الأزمنة على الناس في عملية تأثير متبادلة، وهذا يُمكن قراءته مثلاً في الحجاز بخلاف مناطق أخرى، وعليه يمكن القول إن تلك الفتاة لديها فرص أوسع للتطلعات، بينما فتاة أخرى في مكان آخر ربما تحدها الظروف في شكل أضيق وهكذا؟ * لا أعتقد أنني أوافقك على ما ذهبت إليه، لأن هذه الفتاة التي في الحجاز هي نفسها في نجد، والتي في الشمال أو الجنوب، ففي جميع الأحوال هي تطالب بحقوقها، وهذه الحقوق تصطدم بمؤسسات حكومية وغيرها ترتبط بأنظمة وتعليمات ما زالت تلك الفتاة تعاني منها حتى اليوم في عملها وبيتها وحتى في شغلها الإبداعي. تصوّر أن الرجل يتحكم في كل شيء، ولديه القدرة على أن يوصد الباب في أية لحظة، وأصف هذا التصرف مجازياً ب«الجبن» من قدرة المرأة التي تفوق قدراته، والمكان ليس للحديث عن إحصاءات عالمية تؤكد تميز المرأة ونجاحها من دون الرجل، والشواهد على تلك الهيمنة التي لم يعد لها أي مبرر واضحة ولا تحتاج إلى إثبات. الرجل اقتحم حتى المؤسسات الثقافية وأغلق من دونه الباب، والأمثلة كثيرة جداً وأبلغها صورة سلطة الرجل الأكاديمي، خصوصاً مؤسسات ثقافية بأكملها، وكان هو الأولى بمعرفة حاجة المجتمع، نظراً لقدراته المعرفية والبحثية، لكن ما نشاهده يفوق الوصف، إذ أصبح وجود الأكاديمي ظاهرة مقيتة ولديه القدرة الهائلة على تضييق المساحة له وحده، وكأن المثقفين والمثقفات والمبدعين منهم خصوصاً أقل أهلية أو أدنى شرفاً لحمل لواء الثقافة والإبداع. وأنتِ طبيبة، هل كان للمعرفة دور في إنجاز مجموعة «بنت»، كونك متخصصة في طب الأسرة والمجتمع؟ - الحقيقة أن جزءاً من هذا الكتاب أنجزته وأنا طالبة في كلية الطب، وحتى هذه اللحظة لا أعرف تحديداً الخط الفاصل بين ما هو معرفة بصفته علماً بحتاً، والكتابة بصفتها بدعة جمالية، إلا أنه في المحصلة كل ذلك يأتي عبر المخزون الثقافي للكاتبة عموماً. لذلك، لا أفرّق بين مكون وآخر، لأجل ما أقدمه في تمثيلي من الناحية الإبداعية. هذا يقودنا إلى الاستشهاد بكتابك الحديث «مختلف»، الذي نضح بتجربة تكاد تكون الأولى من نوعها وهي تقتحم الخصوصية بشجاعة ندرت في المؤلفات السعودية وبطريقة متوازية مع تقديم حكاية شخصية ومحملة بالمعرفة العلمية التي ترين ملاحظتها في أعمالك الأخرى، ما تعليقك؟ - بداية هذا الكتاب مختلف جداً في تجربتي الكتابية، ولن يصل إلى مستواه الروحي أي كتاب مهما لحقته أعمال أنوي إصدارها. وهذه الخصوصية لا ريب في أن أساسها علاقة أم بابنها، فمهما صعبت الكتابة عن أية علاقة إنسانية، إلا أنها قابلة للظهور، ومع ذلك وجدتني مهيأة لرسم هذه القدسية، ولم أتوقع أن يتحرك هذا العمل الحميمي داخل الأسر، وشواهدي كثيرة، لدرجة أن إحدى الأمهات قالت لي: «كتابك جعلني أعيد النظر في علاقتي مع ابني». إذاً، فكتاب يحصد هذا الانتشار لهو الفرح الأقرب والخاص والمهم، والذي سيعتبر لي بوصلة على مساحة أكبر وآهلة بالمحكّات المحرضة على كتابة جديدة ومتجاوزة. أما عن المعرفة، فطبيعة العمل تحتم ذلك، وكان ذلك ضمن السياق ولم يظهر باعتباره بحثاً أو دراسة تستجوب اللغة الجامدة، كما أن الكتاب يعرض سيرة كان يلزم معها تقديم كل ما يخدم عرضها من دون التخلي عن لغتي التي أعرفني بها. كتبتِ مجموعتين قصصيتين «بنت»، و«هل رأيتني؟ كنت أمشي في الشارع»، وإن اعتبرنا الأخيرة نصوصاً تزاحم الحكاية في ما تقدم من مشاهد تكاد تبني قصصاً قائمة لا يدعمها حضور الزمن، إلا أن التساؤل أمام كتابة ناعمة ومتخففة من تكاليف اللغة مما يشي عنك بقدرة حقيقية على كتابة رواية من الحجاز وجدة تحديداً، فأين هناء القاصة والباحثة من فن الرواية على رغم استطاعة أدواتك على اقتحام عوالم السرد؟ - هناك من وجد أن في كتاباتي ملامح روائية أو بذرة عمل روائي، ولي محاولة في كتابة رواية. الحقيقة أنه لا يشغلني ماذا أصدر، فهناك جزء داخلي لا يركض للحضور بجنس أدبي معين كالرواية، وهناك جزء يذهب في مشاغل الحياة وحتى الإهمال. ولي تجربة صقلت مفهوم الإخلاص للكتابة، وذلك بعد مشاركتي في «برنامج الكتابة العالمي» في مدينة آيوا ستي في أميركا، فهناك رأيت مدى أهمية التزام الكاتب بهذا الشغف الذي نهمله بحجة الاستسلام للمزاج الكتابي، وكنت بدأت في كتاب «مختلف»، ما دفعني للالتزام بالكتابة اليومية وعدت من ذلك الملتقى برؤية مختلفة تماماً، ولكون هذا العمل كان الأكثر إلحاحاً في وقته قمت بإنجازه في وقت قياسي، وأكشف هنا عن عمل كنت بدأته قبل 15 عاماً وهو عمل روائي أجدني حالياً في خضمه، وملتزمة له بكل وقت خارج التزامات الحياة. ماذا عن هذا العمل، شخوصه، تاريخه، مدينته؟ وهل سيكون هذا العمل رواية المكان - إن صح التعبير - وتعولين عليه ليقدم تجربة متجاوزة الراهن؟ - أولاً هذا العمل يعالج علاقة صداقة بين فتاتين في جدة، وكل واحدة من بيئة مختلفة تماماً ويعرض مدى الصعوبات التي تواجههما. وأعوّل في هذا العمل على هوية صوتي، وأدواتي التي لا تشبه أحداً سواي، فأنا لا أضع نفسي في سباق أو مقارنة مع أحد وأعتقد أن كل صوت في الحياة متفرد بقدر اختلافنا في الملامح. أما عن المكان، ففي ظني أنه لم تكتب حتى اللحظة «رواية مكان» ولا توجد رواية كتبت المدينة، وعموماً، لا أتحدث عن المكان، أنا أطارد الأحداث وأكتبها مصحوبة بتلك الظروف التي تمس المرأة السعودية. ماذا عن تجربتك في الملتقيات العالمية؟ وماذا أضافت إلى مفهوم الثقافة بالنسبة لتجربتك الشخصية؟ - بكل تأكيد لم تحصل لي أية تجربة كتلك المشاركة في «برنامج الكتابة العالمي» بمدينة آيوا ستي، إذ قابلت 36 كاتباً من مختلف أنحاء العالم، وشاركت بقراءات مختلفة في مكتبات عامة وداخل الجامعات، وهذه الخطوة المهمة للأسف لا توجد في الجامعات السعودية، وما زال الأكاديمي يهيمن على الجامعة لدينا، وكذلك على المؤسسات الثقافية، ويمنع أي روائي أو قاص من أن يدخل باعتباره محاضراً أو مشاركاً للطلبة في الجامعة في يوم حواري أو نشاط يلتقي فيه الطالب بالروائي كما هو معمول به في أنشطة الجامعات في دول العالم ومنها أميركا. في تلك التجربة المميزة جداً قمت بحوارات مباشرة مع طلاب جامعات، وتمكنت من التعرف على تجارب أخرى، وحضرت مناسبات مختلفة، وكان مدير البرنامج بروفيسوراً جامعياً، وكان شاعراً، وكان يأخذنا لرحلات عدة، وهنا وُجد السؤال، ما الفرق بينه وبين الأكاديميين السعوديين الذين غالبهم تعلموا في تلك الجامعات العريقة؟