دعا رئيس مجلس أمناء مؤسسة الأمير سلطان بن عبدالعزيز الخيرية الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز أمس، إلى «وضع تعريف واضح للمتطرف أو منحرف التفكير الذي يتحول إلى إرهابي يهدد الأمن الفكري والأمن الوطني»، مشيراً إلى «خطورة الفكر المتطرف في العصر الحديث إذ صار صناعة تقف وراءها جماعات ومصالح وتوظفه سياسات دول لخدمتها على حساب دول أخرى». وعبّر الأمير خالد في كلمته خلال اختتام فعاليات الدورة التاسعة من مسابقة الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود السنوية لحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية على مستوى دول آسيان والباسيفيك ودول آسيا الوسطى والشرقية، في القصر الجمهوري بحضور الرئيس جوكو ويدودو في العاصمة الإندونيسية جاكرتا أمس، عن أسفه «لحال الابتلاء الذي تعيشه الأمة بسبب الإرهاب»، وقال: «ما كان لي أن أقف متحدثاً في هذه المناسبة من دون أن أشير إلى ما نحن فيه من بلاء وابتلاء ومن دون أن أذكر مآسي التطرف في الفكر، والإرهاب في الفعل، بخاصة أنه يتبنى كثيراً من طروحاته بدعوى الإسلام، والإسلام منه براء. وما يزيد العجب أن الإرهاب أصبح يضم بين جنباته أنماطاً متعددة من المؤيدين، وأضحى يمتلك أذكى الأسلحة وأكثرها دقة». وهنا نص الكلمة: قبل أن أبدأ خطابي، أتوجه بالشكر العميق، والتقدير، والإجلال، إلى الشعب الإندونيسي العظيم، الذي يضرب المثل في تحقيق أسمى الخصال والسمات، والعيش في وئام وسلام وإخاء، ويوجهون طاقاتهم للعمل والإنتاج، والتنمية والنماء. شعب فاق تعداده 258 مليون نسمة، من 15 عرقاً، ويتحدثون العديد من اللغات واللهجات، ويعتنقون ديانات وعقائد مختلفة، وعلى الرغم من ذلك، يعيشون في انسجام وطمأنينة، من دون أحقاد وشحناء، ومن دون تكفير أو اعتداء. وهم مخلصون لوطنهم، حريصون على أمنه واستقراره. إنهم حقاً أنموذج لدول العالم الإسلامي ينبغي أن يُحتذى. أدركوا أن الله خلق عباده أحراراً، وأن الإسلام كفل أسلوب الحوار المثمر المتسامح، والمعاملة بالحُسنى، وعدم اللجوء إلى التكفير والاعتداء. نعم، إنهم شعب يجب أن يُحتذى. لذلك، كانت مسابقة الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود لحفظ القرآن الكريم والسنة النبوية على مستوى آسيان والباسيفيك، مسابقة تحرص على تحقيق غايتين، هما: ربط الجيل الجديد بكتاب الله الكريم وسنة المصطفى، عليه الصلاة والسلام، وتقوية صلتهم بهما والاهتداء بأحكامهما والتخلق بآدابهما، فالحفظ والتدبر، والوعي والدراسة، والإبداع والابتكار، مع العلم والعمل والإنتاج، هي السبيل إلى النهوض بالدول اقتصادياً واجتماعياً، واللحاق بالركب الحضاري، والتقدم الإنساني. الإخوة الحضور أتوجه بالتحية والتقدير إلى فخامة الرئيس وحكومته، وللشعب الإندونيسي العريق، لاستضافتهم فعاليات المسابقة في دورتها الثامنة، ولاهتمام فخامته شخصياً بتطويرها وتوسيعها لتضم 25 دولة من آسيان والباسيفيك، فضلاً عن كرم الوفادة، وحُسن الاستقبال، كما أنقل تحيات مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن عبدالعزيز آل سعود الخيرية، وتقديرها مساندتكم المميزة لهذه المسابقة الرائدة. إن العلاقات السعودية الإندونيسية -وقد شهدت زخماً مُقدراً بالزيارة الكريمة لسيدي خادم الحرمين الشريفين إلى بلدكم الشقيق- تعد نموذجاً للتعاون المثمر الخيِّر بين دولتين إسلاميتين محوريتين، تجسدان قيم الإسلام الخالدة، القائمة على السلام والتكافل، والأمن والأمان، والمساندة المتبادلة، معبرة عن قوة الترابط، وعمق العلاقات، والتقدير الكامل لمواقف دولتكم المشرفة تجاه المملكة العربية السعودية. ما كان لي أن أقف متحدثاً إليكم في مثل هذه المناسبة العظيمة من دون أن أشير إلى ما نحن فيه من بلاء وابتلاء، ومن دون أن أذكر مآسي التطرف في الفكر، والإرهاب في الفعل، وبخاصة لأنه يتبنى كثيراً من طروحاته بدعوى الإسلام، والإسلام منه براء. وما يزيد من العجب، أن الإرهاب أصبح يضم بين جنباته أنماطاً متعددة من المؤيدين، الفقير والغني، المتعلم والجاهل، الشاب والمُسن، البعيد والقريب، الغربي والشرقي. وأضحى يمتلك أذكى الأسلحة والذخائر دقة، والأدوات والمعدات تدميراً، وصار بين أيديهم أحدث ما وصلت إليه تقنية المعلومات والاتصالات، مشكلين كتائب إلكترونية وظيفتها التواصل، بدءاً من الأطفال أولاً، ثم الشباب: ذكوراً وإناثاً، وهذا ما يركزون عليه ثانياً، ثم الرجال والشيوخ والمسنين. كتائب إلكترونية متطورة تستخدم علم النفس، وتنفخ سمومها وفق أساليب علمية واحترافية. وبتنا نرى دولاً تحارب الإرهاب في العلن وتسانده في الخفاء، أُناس تركوا أوطانهم وترعرعوا في دول مضيفة ينقلبون عليها، وتكون تلك الدول من أُولى أهدافهم، وأُناس عاشوا وتربوا وتعلموا على أرض أوطانهم، فإذا هم أعداء لها، بل باتت أول أهدافهم، ولا يهم من يقتلون، ومن يعذبون، ومن يحرقون. وأضحى الشغل الشاغل لوسائط الإعلام جميعها، هو هذا البلاء المستطير: أخباره وجماعاته، تمويله وأتباعه، حتى غدا زعماء الإرهاب ورؤوسه كأنهم نجوم وأبطال أسطوريون، تتتبع المجتمعات أخبارهم الضالة المضلة، وتهتم بها. وقد سبق أن كتبتُ في مقدمة كتيب عن «الأمن الفكري» صدر عام 1430 من الهجرة النبوية الشريفة، الموافق للعام الميلادي 2009، عن فئات الإرهابيين تحديداً، لكي نستطيع مجابهتهم، وذكرت أنه: ينبغي أن نضع تعريفاً واضحاً للمتطرف، أو منحرف التفكير، الذي يتحول بالضرورة إلى إرهابي يهدد «الأمن الفكري» و«الأمن»، فهل هو من فجَّر نفسَه؟ أم هو من فُجر من بُعد؟ أم أنه اليد التي نفذت بمساعدة آخرين لا يقلُون عنه جُرماً؟ وتتفق معظم الآراء على أن الإرهابي هو كل من ساهم في السلوك الإرهابي مساهمة مُباشرة. والمُساهِمُون ستة: أولهم المفكِّرون أو المُنظِّرون. وثانيهم المُخطِّطون. وثالثهم المموِّلون. ورابعهم المحرِّضون. وخامسهم المؤيِّدون والمتعاطفون. وسادسهم المنفِّذون. وهم من يقترفون التفجير والاغتيالات، إنهم الأدوات في أيدي المساهمين الخمسة السابقين. والسؤال: هل أسلوب مواجهة هذه الفئات الستة واحد؟ أم لكل فئة أسلوب يلائم خطرها؟ إن خطر الفكر المتطرف في العصر الحديث أنه صار صناعة تقف وراءها جماعات مصالح، وسياسات دول، توظفه لخدمتها، ولو على حساب الدول الأخرى واستقرارها وحياة شعوبها. وقد ذكر أحد العلماء الأفاضل، أن من أخطر أسباب التطرف والإرهاب، هو: الجهل وغياب الوعي الديني لدى الفئات الست، إذ كتب: «إن مثلث الرعب الذي يواجه الأمم والشعوب هو الجهل، والفقر، والمرض. نعم... هذا هو المثلث الذي يمثل الخطر المعوق والمعرقل لتلكم الأمم وذلكم الشعوب، ولكن الضلع الأعظم خطراً هو الجهل»، وهو ما ينبغي أن تواجهه المجتمعات والمنظمات، والدول والجهات المختلفة، بمثقفيها ومفكريها وعلمائها. إن أعظم أركان الجهل هو الجهل الديني، وانتشار الثقافات الدينية الجامدة، التي لا تنتج فكراً أو تقدم فقهاً، ولكن تنتج غلواً وتطرفاً هما الحاضنة الأولى لصناعة الإرهاب، والإفساد في الأرض: إفساد الفكر وإفساد العقل. وقد سُئل أحدُ الحكماء الغربيين: أليس السبب في اتهام الإسلام بالإرهاب هو أن الغرب لا يفهم الإسلام ديناً، ولا المسلمين ديانة؟! فكانت إجابته: «لا»، المشكلة أن المسلمين أنفسهم لا يفهمون الإسلام، بعيدون عنه، وهم أكثر من يسيئون إليه. لأن الإرهاب يرتكز على فهم معتنقيه للدين، ومحاولة الاهتداء بالآية: «كنتم خير أمة أُخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر». وللأسف أنهم لم يفهموا الآية الفهم الصحيح، ولم يدركوا شروط الأمر والنهي، ولا مَن له الحق في فرضهما. وقد بين المستنيرون من السلف الصالح، أن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تتحقق إلا لمن توافرت فيه شروط ثلاثة: أن يكون فقيهاً في ما يأمر به، فقيهاً في ما ينهى عنه، رفيقاً في ما يأمر به، رفيقاً في ما ينهى عنه، حليماً في ما يأمر به، حليماً في ما ينهى عنه. ويشترط الإمام سفيان الثوري، التابعي المحدث، أن يكون الآمر أو الناهي عالماً في ما يأمر به، علاماً في ما ينهى عنه، عدلاً في ما يأمر به، عدلاً في ما ينهى عنه، رفيقاً في ما يأمر به، رفيقاً في ما ينهى عنه. كما يُقنع المتطرفون أنفسهم بوسطيتهم في الإسلام، مستشهدين بقوله تعالى: «وكذلك جعلناكم أمة وسطاً». ويقفون بالآية عند هذا الحد، ويتغاضون عمداً عن حديث المصطفى: «إن الله لم يبعثني معنتاً، ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً»، وحديثه: «هلك المتنطعون» (قالها ثلاث مرات). والمتنطعون، كما تعلمون، هم: المتشددون في دين الله في غير مواضع التشدد، والملتزمون سُبل الغلو ودروب التكلف، والسابحون ضد تيار الاتزان والاعتدال الذي هو فطرة الله، وهم الذين ينفّرون ولا يبشرون، ويعسرون ولا ييسرون، ويتركون هدياً قاصداً، ووسطاً محموداً، ويذهبون في الأمور فرطاً، ويقولون على الله شططاً. إن تجديد الخطاب الديني لم يعد هدفاً يمكن تأجيله، وإنما أصبح قضية أمن وطني، بكل ما تحمله من دلالات وتفسيرات وتأويلات، إذ باتت قصية أمن وأمان، وخوف واطمئنان، قضية قد تؤدي إلى استقرار ورخاء، أو فوضى وجهل وإساءة إلى الدين الواحد، «إن الدين عند الله الإسلام».