في سياسات ايران«الجديدة» تجاه لبنان، وهي جديدة، لأنها مختلفة في المقاربة عن سابقاتها، ما يشير الى أنها تحاول أن تكون جزءاً من التسوية اللبنانية، إذا كان هناك من تسوية، بعدما كانت السياسات الإيرانية جزءاً من مشكلته في الأعوام الماضية. ولا مجازفة في القول إنه حتى الموقف الفج الأخير للمرشد الأعلى للجمهورية السيد علي خامنئي من «المحكمة الخاصة بلبنان»، ووصفه لها بأنها «صورية، وأي قرار تصدره سيكون لاغياً وباطلاً»، لا يخرج عن السياسات «الجديدة» هذه ولا عن التسوية المحتملة بدورها في لبنان، وان تكن لايران شروط عليها لم تبرز ملامحها بعد. ولا يعني ذلك، في الوقت الذي يتواصل فيه المسعى السعودي–السوري بشأن لبنان، أن في خطة ايران تطويقاً لهذا المسعى، أو محاولة لإفشاله، بل الدخول فيه ولكن بصورة منفردة هذه المرة، بعد أن كانت تكتفي في ما مضى بدور التبني الكامل ومن دون شروط لما تقوم به سورية... تسخيناً الى حافة الانفجار عند الحاجة وتبريداً الى حافة الحل، أو ما يشبهه، عند الضرورة. «جديد» ايران في هذه الحال، أنها تريد أن تلعب منفردة على الساحة اللبنانية، وان بشكل غير متناقض أو متصادم مع سياسة حليفتها سورية (واللعبة تسووية الآن، محلياً وعربياً ودولياً)، بينما كانت حتى الأمس القريب عنصراً من عناصر أخرى تمسك بها الدولة الحليفة. فما هي المؤشرات الى هذا «الجديد» الايراني؟ أولاً، حركة السفير الايراني في لبنان غضنفر ركن أبادي باتجاه قوى وبيئات لبنانية لم تكن لطهران أية صلة بها، أو حتى مجرد محاولة اتصال، طيلة الأعوام الماضية، فضلاً عن تصريحاته الهادئة جداً، و»التسووية» أساساً، عندما يتعلق الأمر بمستقبل لبنان ووحدته واستقلاله والتعايش بين طوائفه ومذاهبه وحل مشكلاته الراهنة. ومن أية زاوية يُنظر الى هذه الحركة، فلا يمكن إلا إدراجها في ذلك «الجديد» الايراني، من دون أن يعني بأي شكل من الأشكال حسماً من مستوى الدعم، أو الاحتضان البنيوي الكامل ل «حزب الله» أو للطائفة الشيعية. ثانياً، تعمد الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد تظهير بعض «الالتباسات» ذات الدلالة في أثناء زيارته للبنان الصيف الماضي، بدءاً باتصاله الهاتفي بالملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز قبل بدء الزيارة، ثم إغفاله في خطبه الثلاث في بعبدا والضاحية الجنوبية وبنت جبيل الاشارة، ولو بكلمة واحدة، الى حليفه السوري ودوره المتجدد في لبنان... أو ربما دورهما المشترك على مدى عقود فيه. ليس في ذلك ما يمكن اعتباره خلافاً أو تناقضاً ايرانياً مع سورية، فالتحالف الاستراتيجي بين الدولتين ما يزال قوياً كما كان في الفترة السابقة، لكن يمكن المجازفة بالقول ان فيه ما يشي بالتوجه الجديد للسياسات الايرانية بالاستقلال عن السياسة السورية، ولكن من دون التناقض أو التصادم معها. وللمناسبة، أغفل الأمين العام ل»حزب الله» السيد حسن نصرالله بدوره أي ذكر لدمشق أو اشادة بمواقفها، كما هي العادة، في كلمته الترحيبية بنجاد في المهرجان الشعبي الذي نظم في ملعب الراية في الضاحية. ثالثاً، التوقيع على العديد من الاتفاقات التبادلية («المدنية» هذه المرة، ومن دولة الى دولة) بين البلدين، في أثناء زيارة رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري الى طهران، وحرص السفارة الايرانية في بيروت على متابعة اقرارها وتنفيذها، بما يشي بالسعي لدفع العلاقات الى فضاء جديد لم يكن متوفراً للمسؤولين في البلدين لفترة طويلة من الزمن. ما تريده ايران، كما يبدو، هو أن تقول للمعنيين بالشأن اللبناني من العرب وفي العالم (وبالدرجة الثانية للّبنانيين أنفسهم) أن بامكانها، اعتماداً على «فائض القوة» الذي تملكه، والممثَّل بسلاح «حزب الله» وبحلفائه، أن تلعب دوراً ايجابياً (وربما دوراً سلبياً أيضاً؟!) في التسوية التي يجري الحديث عنها حالياً لأزمة لبنان. بل وأكثر، إنها موجودة فيه مثل غيرها، وحتى بصورة أقوى منها، وإن على المعنيين هؤلاء أن يعترفوا بهذا الواقع وأن يأخذوه في اعتبارهم عندما يناقشون ثنائياً أو ثلاثياً أو أكثر امكان ايصال اللبنانيين الى حل لمشكلاتهم الطارئة (المحكمة الدولية أو غيرها) وحتى البنيوية منها، على صعيد نظام الحكم والسلطة وتشكيل الحكومات... على طريقة ما كان لها من دور اعترف به المعنيون الآخرون بالشأن العراقي لجهة تشكيل حكومة نوري المالكي في المرحلة الأخيرة. وفي ما يتعلق بحلفاء ايران السوريين، فإذا كان ممكناً لهذا السبب أو ذاك التوصل الى توافق ايراني–سوري (مفتوح طبعاً على الولاياتالمتحدة) حول حكومة نوري المالكي في العراق، فلن يكون مستغرباً البحث بتوافق مماثل في لبنان، وان يكن مفتوحاً هذه المرة على السعودية وربما حتى على الولاياتالمتحدة وفرنسا وغيرهما. يضاف أنه، في الوضع اللبناني الراهن، تنطلق ايران في موقفها هذا من حقيقة أنها وسورية و»حزب الله» انما يقفون معا في منطقة رمادية واحدة، وربما أمام اتهام واحد، لجهة القرار الاتهامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما تلاه من الاغتيالات التي ضربت لبنان في فترة 2005-2006. هل ينجح «الجديد» الايراني في الإفساح له في المجال لأخذ موقع معترف به، عربياً ودولياً وبالتالي لبنانياً، على طاولة البحث بتسوية تمكن لبنان من الخروج من أزمته الحالية؟. من السابق لأوانه العثور على إجابة واضحة، أو دقيقة، عن السؤال في الفترة الحالية، وذلك لعدد من الأسباب التي تتصل مباشرة بالمنطقة وعلاقات القوى فيها، أكثر مما تتصل بلبنان، في ضوء المحادثات المتعددة الأطراف، العلنية وغالباً السرية، التي تجري الآن تحت عنوان ملف ايران النووي، ولكن أساساً وبشكل خاص حول دور ونفوذ إيران الاقليميين في المنطقة العربية وعلى امتداد الشرق الأوسط كله. لكن ايران الموجودة بالفعل، أمنياً ومادياً وتنظيمياً، على شواطئ البحر الأبيض المتوسط منذ أعوام، من خلال «حزب الله» وحركة «حماس»، ستكون ايران أخرى بكل ما تعنيه هذه الكلمة بعد أن تحصل على مقعد معترف به في الاتصالات الجارية حول تسوية ما، ولو مؤقتة وتتعلق بقضية طارئة وثانوية، مثل المحكمة الدولية في لبنان. وليس من المبالغة اعتبار أن هذه هي الغاية الحقيقية والبعيدة لما يبدو على السطح من سياسات ايرانية «جديدة» في لبنان وباتجاهه في هذا الوقت.