رحيل إحدى بناتها الأربع أمام عينيها في لحظة خاطفة، جعل قلب أم محمد يرتعد إن حرك الهواء طرف عباءة إحدى المتبقيات من قاصراتها الثلاث، بيد أن حلم المرأة التي ظلت عميلة معتمدة لدى المحاكم جراء غدر طليقها، لم يتعد منزلاً متواضعاً تستر داخله حالها، وتؤوي في حضنه فتياتها اللائي تخشى انطفاء شمعاتهن المضيئة الآن في ظلمات مستقبلهن. وفي فناء المحكمة الجزئية في جدة، شدت «الحياة» حال سيدة مطأطئة رأسها إلى الأرض ومقبضة عليه بكفيها وشاردة بذهنها كما المنتظر نطقاً بالحكم له بالبراءة من قضية قد تكلفه ذهاب روحه إلى غير رجعة. دنت «الحياة» منها، بيد أن حياة أم محمد ظلت الضد الموازي لمسارها، والقاطع لها بخيله وسنانه إن تقاطعت في مفترقاته المتنكرة، وبعد آهات عدة غاصت معها أنفاسها في جوفها المحترق على حالها، أوضحت أنها جالسة هنا منتظرة فرجاً من الله، هكذا بدأت إفاداتها عن وضعها المرير المتأزم، وواصلت: «أعيش حالاً لا يعلمها إلا الله، ظللت أنادي لكن بح صوتي حتى صار لديهم مخنوقاً وإن اعتلى، لا يسمعني أحد». وعن سبب بقائها في فناء المحكمة في هذه الصورة، تابعت: «فاتني موعد جلستي المقررة من المحكمة اليوم بسبب حبس أولادي لي في المنزل، ومنعي الخروج كي تفوتني الجلسة، وها أنا الآن انتظر القاضي، لأشرح له وضعي الذي مللت أنا منه». وقلبت أم محمد صفحة مسودة أخرى في حياتها، «أنا مطلقة، كنت أعيش مع أولادي وبناتي في منزل والدهم، بيد أنه لبس لي جلد النمر، وبدأ في تحريضهم علي، حتى إن أحدهم تجرأ على ضربي بلا وعي منه، مطالبين بأن أرحل وأترك لهم البيت، ومن هنا بدأت الأسئلة تدور وتزدحم في مخيلتي إلى أين سأذهب؟ إذ ليس لي مكان، وهناك في البيت الذي يفترض أن يكون بي رحيماً وملجأي الأول إن عصف بي الزمان وجار وتنكر لي البعيد والجار «منزل والدي» كانت صدمتي فيه أكبر، ووقع الرفض علي أقسى وأمر، قائلاً لي بالصوت العالي لن أستقبل بناتك، وإن وجدت له العذر، نظراً لأنه شيخ كبير ومريض، ولكن أين سأذهب بهؤلاء البريئات الصغار اللائي لم أستطع حتى تركهن في المنزل وحدهن، فما بالي لم أجد المنزل نفسه أو العائل الذي يحمل عني همّ الصرف عليهن لأتفرغ إلى رعايتهن؟». وأضافت: «رزقني الله بأربع بنات ماتت واحدة منهن في حادثة مرورية أليمة، لذا أنا شديدة الخوف عليهن والقلق، فكرت أن أرفع دعوى ضد طليقي وأولادي الذين نكرهم علي، وها أنا الآن أقف في المحكمة بلا جدوى، كما رفعت أيضاً قضية حضانة، ولكن شعرت بأن القاضي لا يتفهمني، وأخبرته بأن والدهن مريض نفسياً وغير أهل لتربيتهن، ولدي سند طبي يثبت ذلك، لكن الجلسات تطول والعرق يتصبب وأنا على أبواب المحاكم، ذهبت إلى هيئة حقوق الإنسان وشرحت لهم وضعي، فقالوا طالما ان قضيتي منظورة في المحكمة فواصلي معها، لأننا لا نستطيع التدخل بوجودها لدى القضاء». وناشدت أم محمد القلوب الرحيمة مساعدتها ولو باستشارة محام يعيد لها حقوقها المسلوبة، ويطمئنها على مستقبل بناتها بعد أن غدر بها زوجها، ومضت: «بما أنني سيدة كبيرة لا أقرأ ولا أكتب، استغل طليقي هذا الأمر، وبصّمني على ورقه أفهمني أنها تنازل منه لبناتي، واكتشفت في ما بعد أنها تنازل عن القضية، التي رفعتها ضده في المحكمة الجزئية، لذلك شعرت بعجزي، وأن أموري تداخلت في بعضها البعض، وأنا وحدي لا أستطيع حتى حماية نفسي، لذا جل ما أريده وأتمناه هو أن أعيش مع بناتي في منزل لا يغتصبه مني أحد».