لسبب أكثر وجاهة، يصر الموفد الدولي الى الصحراء كريستوفر روس على اختبار قدرات الأطراف المعنية بالنزاع في السير على طريق المفاوضات، حتى وان بدت من دون مخرج. الأصل في ذلك انه لا يوجد بديل منها. بل انها بديل كافة التجارب العسكرية والسياسية التي آلت الى الإبقاء على التوتر. مهمة عسيرة، تلك التي يعمل من أجلها لإقناع الأطراف بأن يرتقوا الى درجة المفاوضين القادرين على اتخاذ القرارات الصعبة. وبدل ان يعمل مثل سابقه الوسيط جيمس بيكر الذي عرض يوماً الى أربع خيارات، أحلاها مر في نظر هذا الطرف أو ذاك، عمد روس الى مواصلة اكتشاف مناطق الظل في مفاوضات نسيجها خطوط حمراء. انه أشبه بالباحث في صحراء شاسعة عن واحة ارتواء واستقلال. ولعله بذلك يروم إنهاك المفاوضين بأجندة تحيلهم على التزام خيار المفاوضات، بما له وما عليه. حين يقر الموفد روس بأن مواقف الطرفين، المغرب وبوليساريو لم تغادر منطقة الصفر، لناحية تمسك الرباط بخطة الحكم الذاتي ودعوة الجبهة للعودة الى الاستفتاء. ويعلن في الوقت ذاته عن طرح أفكار جديدة، ستكون محور جولتين قادمتين من المفاوضات غير الرسمية، فإنه يرهن إحراز التقدم بمدى قابلية تلك الأفكار لبناء أجواء الثقة. أقلها الإبقاء على الجسور التي تكفل عدم التصعيد. انه يدرك ان في غياب الاتفاق على مرجعية ثابتة للمفاوضات يستحيل النفاذ الى جوهر المشكل، لكنه يعمل وفق قاعدة التطبيع التدريجي التي تساعد في إنتاج أوضاع جديدة، انه لا يخضع خطواته لفكرة ان لا اتفاق من دون تسوية جميع الملفات العالقة، فالراجح ان الاتفاق على قضية، حتى لو كانت مرحلية. أفضل من ترك الأشياء تغوص في التراكمات. للمرة الأولى يجري الحديث عن مفاوضات ميدانية تمنح جولات مانهاتن القادمة نفساً جديداً. كذلك فإن إشارة موضوع تمثيلية السكان المتحدرين من أصول صحراوية بات يفرض نفسه، ما يعني أن ظلالاً سياسية وقانونية كانت مغيبة على امتداد أطوار المفاوضات السابقة بدأت في الظهور. وقد نجح روس فعلاً في جذب أطراف المفاوضات الى المربع الذي ينشده. لم تنفع اشتراطات مجلس الأمن، لجهة الانخراط في مفاوضات واقعية وجوهرية بحسن نية، ومن دون شروط مسبقة في إزاحة كل العقبات، فقد بدا ان كل طرف يستعجل نهاية المفاوضات الى درجة البدء بطرح خلاصاتها. المغاربة يقولون ان قرارات مجلس الأمن ذات الصلة رجحت كفة الحكم الذاتي لدى وصفها الاقتراح بالصدقية والجدية، ثم الواقعية القابلة للتنفيذ، والحال ان بوليساريو ترى ان الصيغة الوحيدة لبلورة مفهوم تقرير المصير هي تنظيم استفتاء ذي خيارات عدة. فأي معنى لمفاوضات لا تفت طريق الأمل. طالما ان التعاطي والاستفتاء انتهى الى الباب المسدود قبل ظهور بدائل جديدة. غير ان الورقة الرابحة التي يمسك بها روس، تكمن في أن أي طرف مباشر أو غير مباشر لا يرغب في تحمل مسؤولية فشل المفاوضات. هناك طبعاً من يعمل على تقويضها بصورة أو بأخرى، لكن الأمر لا يعدو ان يكون من قبيل التلويح بسقف أكبر من التمنيات. وقد ظهر جلياً ان الاستغاثة بأطراف إقليمية أو دولية للمساعدة في إحراز جزء من التقدم، يمكن ان يصبح آلية جديدة تنو في اتجاه حض الأطراف على تقديم تنازلات، يأتي بعدها الاتفاق. في طبعة سابقة رهن الوسيط السابق جيمس بيكر التقدم على طريق الحكم الذاتي لفترة لا تزيد عن أربع أو خمس سنوات يصبح ممكناً في حال رعايته أوروبياً وأميركياً. فقد عهد الى كل من باريس وواشنطن بدور أكبر، لولا ان خطته تلك سرعان ما تعرضت لتعديات أدت الى نفض يده من الملف كلياً. فهل يكون روس الذي جرب الانفتاح على إسبانيا وفرنسا بصدد البحث عن راعين جدد لمفاوضات عسيرة. أم أنه سيلجأ الى ديبلوماسية الحراك الذي سيزج بين ساحة الميدان وأسرار الغرف مكيفة الهواء؟ على امتداد جولات مفاوضات سرية بين المغرب والجزائر، دارت في عواصم أوروبية كان الكلام يتداخل بين البعد الثنائي وحظوظ التسوية الإقليمية لنزاع الصحراء، كونه الأكثر أثراً في تأزيم الأوضاع أو انفراجها بعض الشيء. الآن وبعد مرور عقود يتفاوض المغرب وجبهة بوليساريو في حضور كل من الجزائر وموريتانيا، فيما تعلو النبرة نفسها لجهة الحاجة الى حل إقليمي يصمد أكثر. بصيغة أكثر تفاؤلاً نتج عن الوفاق المغربي - الجزائري تطور إقليمي مهم أدى الى بناء الاتحاد المغاربي، ونصت معاهدته التأسيسية ان هذا القضاء يضم خمس دول مغاربية، لا أقل ولا أكثر. فهل في الإمكان استحضار الروح نفسها التي خلصت المنطقة من بعض أوهامها، أم ان ما حدث سيبقى حالاً منفردة يصعب استنساخها من أجل انبعاث أحلام الأجيال المغاربية التي لم تتحقق.