لعل نحو خمسين حالماً بمُنتَج ثقافي، يعبّر عن الفرد كما بيئته، ينتظرون ما سيسفر عنه الحدث المرتقب اليوم. إذ يعقد الصندوق العربي للثقافة والفنون مؤتمراً صحافياً في بيروت لإعلان أسماء الفائزين، من مختلف أرجاء العالم العربي، بمنح مالية لتنفيذ مشاريع سينمائية، مسرحية، فنية - بصرية، أدبية، موسيقية، وغيرها كانوا قد تقدموا بها من الصندوق خلال العام 2010. غير أن الحديث مع المدير التنفيذي للصندوق، أسامة الرفاعي، يوسّع دائرة الوعد والمُنتَظر، ومفهوميهما، إن كان في ديناميات المشهد الثقافي العربي أو في رقعته الجغرافية. فهو يشرح ل «الحياة» الأهداف الأبعد للصندوق، وبرنامج عمل الأعوام الثلاثة المقبلة، لا سيما ما يرمي منها إلى احتضان أكبر لصانعي السينما الوثائقية، التي يبدو أنها شكل التعبير الثقافي الأكثر «شعبية» وحضوراً. ويتوقع أن يترافق ذلك مع استكشاف النواحي الفنية «الضامرة»، والدول العربية التي لم يتلق منها الصندوق اقتراحات مشاريع بالغزارة المتوقعة، مع تحليل للمعوقات ومحاولة التعامل معها. والأهم من هذا كله أن مجلس أمناء الصندوق، الذي يترأسه وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة، ومعه فريق العمل التنفيذي، بدأ يرى في الصندوق الذي انطلق عام 2007، نموذجاً ناضجاً وقادراً على نقل خبراته ومنهجية عمله. فقد يكون «التصدير» هذا، برأي الرفاعي، مفيداً لمؤسسات حكومية أو غير حكومية عربية تبتغي، وبجدية، الاضطلاع بالمهمة نفسها. وهي مهمة تشجيع الأفكار ودفع الاشتغال بها كيما تتجسد في مختلف أشكال التعبير الفني، فتنفذ إلى مخيلات الناس وقلوبهم وعقولهم، علّها تحرّك ساكناً عربياً. فنون مختلفة بدأت فكرة إنشاء مؤسسة مستقلة لدعم الفن والثقافة في العام 2004، وصارت واقعاً في العام 2007 بعدما استقطبت مانحين عرباً وأوروبيين وأميركيين. خلال أعوام أربعة تلقى الصندوق نحو 2200 طلب، وقدّم أكثر من 200 منحة. في العام 2008 لم يكن مجموع المنح ليتعدى مبلغ 840 ألف دولار. فيما بلغ هذا العام مليوناً و400 ألف دولار، 900 ألف منها منحٌ استجابت للدعوة المفتوحة لتقديم المشاريع، و500 ألف خصصت لفئات بعينها من المشاريع وعلى رأسها الأفلام الوثائقية. علماً أن أنواعاً أخرى يُدرس ارتقاؤها سلّم أولويات الصندوق، لا سيما المشاريع المسرحية. في حين أن الحد الأقصى لكل منحة، مهما كان المشروع، هو 50 ألف دولار. فهل إيلاء السينما الوثائقية اهتماماً أكبر مردّه فقط إلى أن أكبر عدد من طلبات التمويل جاء عن تلك الفئة؟ «ليس هذا هو السبب الوحيد»، يقول الرفاعي، «بل كشفت لنا نوعية المشاريع المقدّمة، عموماً، إبداعاً كامناً ورغبة لافتة. نشعر أن السينما وسيط قوي وحاضر في العالم العربي، يخاطب الناس مباشرة. العام الماضي، أعطينا 15 منحة لأفلام من مصر والمغرب وتونس ولبنان وغيرها من الدول العربية. وفي تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كنا موجودين في مهرجان السينما في أبو ظبي، ونظمنا ورشة عمل، وحاز أحد ممنوحينا جائزة هناك، إلى جانب أخرى في تونس». في خانة الأهداف الرئيسة، يظهر على الموقع الإلكتروني الخاص بالصندوق «تشجيع الإنتاج الثقافي أو الفني الذي يظهّر القضايا العربية الاجتماعية والمشتركة». وهنا نطرح التساؤل في شأن مثل هذا التعبير الفضفاض، وعما إذا كانت هناك قضايا عربية جامعة، أم خصوصيات مُجتمَعات وأحياناً في قلب الدولة العربية الواحدة. يقول الرفاعي إن «الصندوق العربي لا يدعم قضايا أو شعارات لذاتها، بل الإنتاج الثقافي الذي يبلور فكرة إنسانية، سياسية كانت أو اجتماعية أو ثقافية»، لافتاً إلى أن موقعاً إلكترونياً جديداً سيتم إطلاقه اليوم أيضاً، وستعلن عبره استراتيجية أكثر وضوحاً. كما يَعِد بتفعيل دور الموقع، خصوصاً في ما يتصل بالتشبيك والتعاون ما بين منتجي الأعمال الثقافية، وجعل الأعمال الفائزة بالمنح «مرئية» أكثر لمنظمي النشاطات والمهرجانات الثقافية حول العالم. ويشرح الرفاعي أن أرجحية تمويل مشروع ثقافي على آخر تبتّها هيئة التحكيم (18 مُحكِّماً، ثلاثة لكل من الفئات الستّ المعتمدة، وستعلن أسماؤهم خلال المؤتمر الصحافي اليوم). ويستند القرار الفصل إلى معايير من النوع الآتي: أولاً نوعية المشروع المقترح وما يختزنه من خبرة وعمق الرؤية. ثانياً، أن تكون المجتمعات العربية معنية بالفكرة الرئيسة المطروحة. وثالثاً، أن تكون دراسة الجدوى المقدَّمة مقنعة وواقعية. لكن، حين يقال «خبرة»، ألا يهمّش ذلك التجارب الجديدة والمواهب الناشئة؟ «الخبرة هي واحدة من المعايير ولا تختزلها»، يجيب الرفاعي، «أصحاب الخبرة غالباً ما ينتهون إلى نتائج واضحة وشبه مضمونة، ما يعني مجازفة أقل من قبلنا. لكن الأفكار المبتكرة، التي تنمّ عن موهبة حقيقية، وإن لم تقترن بالخبرة، فإنها تفرض نفسها علينا أيضاً، بل تهمّنا». أفكار وهواجس يبدو مغرياً السؤال عن أكثر المواضيع رواجاً ضمن 2200 مشروع درسه الصندوق خلال أربعة أعوام. يجيب الرفاعي بأنها تختلف وتتنوع، «لكننا نرى نسقاً شبه دائم في الأفكار المتمحورة حول أوضاع المرأة العربية، والإشكاليات السياسية والفساد، إضافة إلى الهواجس المحيطة بمسألة الهوية». فإذا كانت واضحة مسارب موازنة إنتاج فيلم أو مسرحية أو ألبوم موسيقي، على الصعيد التقني والبشري، فإن العمل الأدبي يبقى عملاً فردياً. فكيف يدرس طلب متعلّق بتأليف كتاب أو رواية؟ هنا، يقول الرفاعي إن الصندوق يموّل الأشخاص الراغبين في إجراء أبحاث يوضع على أساسها عمل مكتوب، روائياً كان أم غير ذلك، إلى جانب دعم تفرّغ الكاتب للكتابة على مدى بضعة أشهر. وإذ يشدد على أهمية العمل الكتابي من منظور اهتمام الصندوق بالحفاظ على اللغة والتاريخ والهوية، فإن الرفاعي يكشف أن النوع الكتابي ليس الفئة التي قُدّم منها العدد الأقل من طلبات المنح، بل فئات أخرى منها - للمفاجأة - الموسيقى... «ونحن نحاول فهم هذا الأمر وتحليله، من خلال التواصل مع متخصصين. وربما نتعامل مع هذه الظاهرة بإيجاد تقسيمات أوضح لاستقطاب المشاريع الموسيقية، من الكلاسيكية إلى الشبابية (مثل الراب أو الهيب هوب) وغيرها». يضيف الرفاعي قائلاً إن مدّ الجسور، باتجاه المنابع الأضعف لطلبات المنح، لن تقتصر في المرحلة المقبلة على أنواع المشاريع، بل ستتوجه أيضاً إلى الدول التي لم يصل منها عدد معقول من الطلبات، «لذلك نسعى إلى تلمّس الأسباب، والعمل مع أعضاء اللجان على ترويج أكبر لتقديمات الصندوق في تلك الدول». لعل ظاهرة ضمور المبادرة في بعض البلدان، مضافةً إلى العقلية السائدة على مستوى الحكومات العربية، تؤكد القصور المحسوس في السياسات الثقافية، لا سيما على المستوى الرسمي. إذ غالباً ما تبدو موازنات الوزارات أو المؤسسات الحكومية المختصة محدودة، على رغم بعض الاستثناءات. فإلى أي مدى يقدر الصندوق العربي على ردم تلك الهوة، أو حتى التأثير إيجابياً في السياسات المعمول بها راهناً؟ يعترف الرفاعي بأن «الهوة رهيبة... فإذا ما جُمعت المبالغ التي طُلبت لمشاريع، خلال السنوات الأربع الأخيرة، لبلغت خمسين أو ستين مليون دولار، والصندوق بالكاد غطّى ثمانية في المئة منها. مؤسسة واحدة لا تكفي بالطبع. نتمنى أن نرى عشرين وثلاثين مؤسسة مثلنا». يتابع: «بالنسبة إلى التأثير في السياسات، فقبل ثلاثة أسابيع تقريباً بدأنا التواصل مع عدد من المؤسسات العربية والأجنبية العاملة في العالم العربي، وهي طبعاً مؤسسات غير حكومية، وهذا بالضبط ما تناقشنا فيه. من جهتنا نسعى إلى زيادة الدعم المالي للصندوق العربي من كل مانحٍ مهتم ومحتمل. ومن جهة ثانية، ننوي حواراً مع المؤسسات العامة لنقل خبراتنا في مراكمة التمويل، ولشرح عدد من التجارب التي تسنى لنا الاطلاع عليها، كنموذج السياسة الضريبية التشجيعية للثقافة في الولاياتالمتحدة، ونموذج الدولة الراعية في فرنسا». لا ينفي الرفاعي أن الأزمة المالية العالمية ترخي بظلالها على «كرم» المانحين، لا سيما الأجانب منهم. لكنه يعتبر،على رغم مراوحة مفاعيل الأزمة في العديد من الدول العربية، أن تكبير حجم منح الصندوق العربي يبقى ممكناً.