لم يعد باسم التميمي يدري على أي مكان في جسده سينهال السجان الإسرائيلي ضرباً داخل غرفة التحقيق. فهو لم يعد يحس بالضربات. إنه يرى فقط أن يديه تهتزان وحدهما. ثم يرى رأسه يهتز بلا إرادة. والآن جسده كله يهتز، كما لو أنه يتعرض لتيار كهربائي... «بداية يوم التعذيب هذا كانت في تفعيل تعذيب الهز في منطقة العنق، حيث يهز المحقق العنق، فيتحرك في مختلف الاتجاهات ثم يغير المحقق قبضته نحو نصفي الأسفل. وبعد هذا التعذيب جاء دور رأسي... كان صراخ المحقق يملأ غرفة التحقيق... يشتم ويلعن... ويهدد... لكن قوة اهتزاز جسدي أفقدتني حتى القدرة على سماع تفاصيل ما يقول. وهو لم يكتف بتفعيل عملية الاهتزاز لجسدي على مراحل وإبقائي في غرفة التحقيق ما لا يقل عن عشرين ساعة متواصلة، فوصل إلى أقسى مراحل التعذيب... في هذه اللحظات لم أعد أعي كيف بدأ وكيف انتهى. كل ما أذكره أن جسدي بدأ يهتز كله بقوة وبسرعة حتى فقدت وعيي. وعندما عدت إلى وعيي وجدت نفسي في المستشفى غير قادر على الحركة... علمت في ما بعد أنني أصبت بشلل جزئي». تسع فترات اعتقال تعرض لها باسم التميمي، ابن بلدة النبي صالح في الضفة الغربية. وعندما راح يحدثنا عن تعرضه للتعذيب بطريقة هز الجسد، التي ألحقت به أضراراً صحية خطيرة وصعبة، اعتبر وسائل التعذيب الأخرى التي تعرض لها داخل السجن الإسرائيلي، شيئاً بسيطاً. أسلوب الموزة مثلاً، بحيث يجبر الأسير على البقاء لساعات طويلة بوضعية تسبب له الآلام. أو سكب المياه الباردة عليه في الشتاء. لم يتعامل مع هذه الأساليب في حينه، كجريمة حرب بكل ما تعنيه الكلمة. والتميمي صورة مصغرة لمعاناة الأسرى الفلسطينيين، ممن أفرج عنهم أو أولئك الذين يخوضون، في هذه الأيام، الإضراب عن الطعام وتشكل مطالبهم حقوقاً أساسية ضمن وثيقة حقوق الفرد والإنسان. الإضراب، الذي ما زال في بدايته ولم يشمل كافة الأسرى، أفقد العديد من المسؤولين الإسرائيليين صوابهم، كوزير الدفاع، أفيغدور ليبرمان ووزير المواصلات يسرائيل كاتس، اللذين اعتبرا خطوة الإضراب فرصة يتوجب على إسرائيل استغلالها لفرض تشديد العقوبات عليهم. فدعا البعض إلى ما اسماه تغيير قواعد اللعب مع الأسرى. الوزير كاتس، دعا إلى تنفيذ حكم الإعدام بحق هؤلاء الأسرى، أما ليبرمان فراح يبحث عن سبل يقنع فيها رئيس حكومته بنيامين نتانياهو كيف يمكن أن يتبنى طريقة مارغريت ثاتشر، التي تمثلت بالمعاملة القاسية التي مارستها، مع الأسرى الإرلنديين الذين أضربوا عن الطعام في بداية الثمانينات وماتوا نتيجة لذلك. جميع أفراد العائلة دخلوا السجون باسم التميمي، الذي يبلغ من العمر اليوم خمسين سنة، دخل المرة الأولى السجن وهو شاب في العشرين. زوجته أيضاً اعتقلت خمس مرات خلال التظاهرات الأسبوعية. وبين حبسة وأخرى عاش أولاده أيضاً مرارة العسف والتنكيل. عهد وعمرها 15 سنة اعتقلت هي الأخرى مع والدتها. وابنه محمد (11 سنة) اعتقل هو الآخر، وقد التقطت عدسة الكاميرا عنف الجندي الإسرائيلي وجريمته في التعامل مع طفل فلسطيني، وهي وحدها تحكي ما مر به هذا الطفل. أما ابنه وعد (14 سنة)... فوقوفه على نبع النبي صالح، ومعه العلم الفلسطيني، وفق ما يظهر في الصورة لمنع المستوطنين من الاستيلاء عليه، تقول كل شيء. وعد اعتقل خلال فترة اعتقال والده، في المرة الأولى، بتهمة قذف الحجارة على الجيش ثم اعتقل مرة ثانية، وخلال فترة الاعتقال تعرض هو أيضاً للتعذيب في محاولة للحصول منه على اعتراف: «أذكر وأنا في غرفة التحقيق جاء أحد المحققين، ولم أكن أعلم أن ابني وعد معتقل، وقال إن لدينا ولداً «نمروداً» لا يريد الحديث معنا ويرفض الاعتراف ويطلب أن نحضر له محامياً... إنه نمرود»، يحدثنا الوالد مضيفاً: «بعد ذلك علمت أن الحديث عن ابني وعد الذي تعرض هو الآخر للتخويف والتعذيب». عائلة بأكملها ذاقت عنف ممارسة الجيش الإسرائيلي وغياهب غرف التحقيق وقضبان السجون. وعلى رغم شفاء الوالد، من الشلل الذي أصابه، بعد علاج مكثف، إلا أن تفاصيل معاناته في السجن ما زالت عنواناً صارخاً في كل مرة يجري الحديث فيها عن معركة للأسرى. وكلما انطلق التميمي يروي معاناته يشعر وكان الأمر حدث له قبل ساعات قليلة، «إنها فترة لا يمكن أن تنسى ولا يمكن لي أن أصف شعوري ومعاناتي، هذه المعاناة التي لم تتوقف عند الإغماء ونقلي إلى المستشفى فهناك أجريت لي عملية في الرأس لوقف النزيف، واضطر الأطباء لتضميد جرح العملية ب36 قطبة. وهذه تحولت إلى أداة جديدة لدى السجان لتعذيبي»، يروي لنا التميمي. ويقول: «بعد أيام من العملية قرروا نقلي إلى السجن. اصطحبوني من المستشفى ولم أكن قادراً على تحمل الألم. فور دخولي سيارة الجيب دفعوني بقوة إلى الداخل فارتطم رأسي بأرضية السيارة وكان الجندي يقود الجيب بسرعة وكلما اهتز الجيب كان رأسي يرتطم بقوة في أرضيته. صرخت... تألمت... وكانت آلامي لا توصف... لكن أحداً لم يحرك ساكناً. وعندما وصلت إلى الزنزانة كان رأسي ينزف دماً نتيجة تفكيك بعض القُطَبْ. يتابع: «بعد قليل من إدخالي الزنزانة اصطحبوني إلى غرفة، فدخل ضابط كبير ورجل استخبارات، وعرضا علي صفقة اعترف بموجبها أنني قتلت مستوطنة، فرفضت. عندها هددوني. فقلت للضابط إنني بت نصف إنسان... عاجز عن الحركة ولم يعد لدي ما أخسره. افعلوا ما تشاؤون. فصرخ أحدهما وراح يهدد ويشتم ثم اقتادوني إلى زنزانة صغيرة، بحجم لا يمكن النوم أو الحركة فيها. بقيت لساعات طويلة واقفاً ولكن بعدما رأوا أن نزيف الدم من رأسي يتواصل دار جدال بين من تواجدوا في المكان حول كيفية التعامل معي وإنهاء القضية قبل الكشف عما تعرضت له من تعذيب. أمام معاناة التميمي لا يحتاج ليبرمان وكاتس ولا أي مسؤول إسرائيلي لاتخاذ إجراءات متطرفة كالإعدام أو إبقاء الأسرى مضربين حتى الموت جوعاً. فما كشف عن أساليب تعذيب للأسرى تفوق في بعض الحالات، حتى معاناة التميمي. وإذا كان التميمي قد تمكن من الشفاء واستعاد حركته الطبيعية فهناك العديد من الأسرى الذين باتوا معاقين أو يعيشون اليوم داخل السجون الإسرائيلية في وضع صحي خطير جداً». وكما تعرض وعد ابن التميمي للتعذيب والاعتقال هناك آلاف الأطفال والفتية الفلسطينيون الذين ذاقوا مرارة السجون الإسرائيلية، كما هو الوضع أيضاً لدى النساء والشابات. وبحسب الإحصائيات التي تعلن عنها إسرائيل فقد زجت في سجونها منذ عام 1967 ستمئة ألف فلسطيني. المحاكم العسكرية فظائع محاكم الاحتلال، تنعكس في المحاكم العسكرية. فهذا الجانب يشكل لائحة اتهام دولية خطيرة ضد إسرائيل. والمحاكم العسكرية لا تتطلب إضراب أسرى. ففيها ممارسات القمع والعقوبات والإجراءات الانتقامية لشعب بأكمله، وتشكل عقوبات الغرامات جريمة بحد ذاتها، حيث بينت إحصائيات أخيرة أن المحكمة العسكرية جبت من الفلسطينيين في غضون سنة 13 مليون شيكل (الدولار 3.60 شيكل). وتقول المحامية نائلة عطية، رئيسة الوحدة القانونية لمتابعة الانتهاكات الإسرائيلية في منظمة التحرير الفلسطينية، إن الجرائم بحق الفلسطينيين، الذين يدخلون إلى المحاكم العسكرية تتطلب اليوم صرخة شعب بأكمله. فهذه المحاكم التي كان يفترض أن تلغى بعد اتفاق أوسلو تشكل اليوم مركزاً للانتهاكات بحق الفلسطينيين. ورأت عطية ضرورة أن يعيد الفلسطينيون والمحامون أسلوب التعامل مع هذه المحاكم حيث يتم إنهاء الكثير من القضايا والملفات في صفقات مرفوضة ومجحفة بحق الأسرى، وهناك أحكام عالية فرضت على الفلسطينيين ما يتطلب اليوم إقامة حملة كاملة لإعادة فتحها من جديد. وأمام الوضع المأسوي للفلسطينيين عموماً، والأسرى في شكل خاص، لم يتأثر القادة الإسرائيليون مع إعلان إضراب الأسرى سوى بما ستقوله العائلات الإسرائيلية التي قتل أبناؤها في عمليات أدين بها القيادي في فتح، مروان البرغوتي، الذي بادر إلى الإضراب، بعدما نشرت مقالته صحيفة «نيويورك تايمز». نشر هذه المقالة والتحقيق في كيفية نقلها إلى الصحيفة كانت الموضوع الأبرز في نقاش الإسرائيليين لهذا الإضراب، واعتبروا المطالب التي وضعها الأسرى لتحسين ظروفهم تجاوزاً لحقوقهم، وخرجوا بحملة لتشديد العقوبات والإجراءات على الأسرى بل حرمانهم من بعض ما يحصلون عليه. وتناقلوا بعض ما جاء في مقالة البرغوتي في «نيويورك تايمز»، خصوصاً في قوله إن «الإضراب عن الطعام هو أكثر طريقة مقاومة سلمية من أجل نقل الرسالة إلى خارج غرف السجن المظلمة، وهي تسبب المعاناة فقط لمن يشاركون فيها ولأقربائهم». وبأن إسرائيل حاولت عرض الأسرى كلهم كإرهابيين لكي تشرع الخروقات والاعتقالات الاعتباطية والتعذيب إلى جانب العقوبات والقيود الخطيرة». وكانت هذه الكلمات وإعلان الإضراب ذريعة لإسرائيل لنقل البرغوثي من سجن «هداريم» إلى العزل الانفرادي في سجن كيشون. من غير المعروف بعد كيف ستتطور خطوات الأسرى في الإضراب، لكن الواضح أن إسرائيل، ترفض، حتى الآن، أية تسوية. وعندما يطلق وزراء منها دعوة تنفيذ الإعدام أو إبقاء الأسرى مضربين عن الطعام حتى الموت، فهذا يعكس موقفاً واضحاً في التعامل مع الإضراب، وحتى المرحلة الأولى منه تبحث إسرائيل في كيفية فرض عقوبات جديدة بدل منح الشروط التي يطالبون بها، ولكن مع هذا لا تخفي إسرائيل قلقها من أن يتطور الإضراب ليشمل عدداً أكبر من الأسرى ويتجاوز التظاهرات في الخارج إلى احتجاجات شعبية تنذر بتصعيد غير متوقع.