بعد أن تراجعت بريطانيا عن ملاحقة قادة مجرمى الحرب الإسرائيليين، يبرز هنا السؤال الملح، هل كانت الدعوة لملاحقتهم دعوة فارغة من المحتوى والمضمون؟ أم أن السياسات الأوروبية المتعاقبة والتي سلمت فلسطين لليهود قائمة على الخواء السياسي والكيل بمكيالين ولا مجال للتطبيق؟ سجلّ الدولة العبرية حافل بالاغتيالات وارتكاب جرائم الحرب بحق الإنسانية، ولم يحدث في تاريخ أي جيش عدواني استعماري أن يكون عدد الجنود والضباط المتورطين في ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين العرب، خصوصاً الفلسطينيين واللبنانيين، يزيد على مئات الضباط والجنود في الحربين الأخيرتين ضد لبنان والمقاومة عام 2006 وضد الفلسطينيين في الحرب على قطاع غزة في كانون الأول (ديسمبر) 2008، فالمتهمون المدانون بجرائم الحرب أصبحوا في هاتين الحربين فقط من جميع ألوية الجيش الإسرائيلي واختصاصاته ومن جميع الرتب العسكرية، وبينهم ثلاثة رؤساء أركان ووزير دفاع ورئيس حكومة ووزراء ناهيك عن ضباط وجنود آخرين. لذلك يستنتج كارل شفارتس في تحليل نشره أخيراً في عدد من المواقع الإلكترونية للأبحاث والدراسات أن إسرائيل أصبحت الدولة الأولى في ارتكاب جرائم حرب في العقود الماضية، ولو حوكم ضباطها منذ اجتياح لبنان عام 1982 على هذه الجرائم لفقد الجيش ضباطاً من أهم الاختصاصات. البداية كانت في 10/9/2005 عندما كادت السلطات البريطانية ان تعتقل القائد السابق للجبهة الجنوبية في الجيش الإسرائيلي الجنرال دورون ألموج المتهم بارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين الفلسطينيين، كذلك تراجع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق الجنرال موشيه يعلون عن جولة محاضرات كانت مقررة له في بريطانيا بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قطاع غزة. أمر الاعتقال البريطاني ضد ألموج هو السابقة الثانية في تاريخ القضاء البريطاني، إذ إنه لم يسبق لهذا القضاء أن أصدر أمرا كهذا إلا في حالة الديكتاتور التشيلي أوغستو بينوشيه. يحاول الشرفاء في العالم تطبيق إقحام القانون الدولي في مواجهة مع شريعة الغاب، وهناك عدد من الدعاوى المرفوعة ضد مجموعة من القادة الإسرائيليين في محاكم سويسرية وبلجيكية وفرنسية وغيرها. من جهة ثانية، تقدمت حركة «هناك حد» الإسرائيلية بدعوى في بريطانيا ضد كل من رئيسي الأركان السابق والحالي الجنرالين موشيه يعلون ودان حلوتس بتهمة ارتكاب جريمة حرب في عملية قصف بيت الشهيد صلاح شحادة. وبعد تراجع بريطانيا أعرب برلمانيون بريطانيون عن استيائهم من نية حكومة بلادهم إعادة النظر في قانون يسمح بملاحقة متهمين بارتكاب جرائم حرب. وطلبت سارة كولبرن مديرة حملة التضامن مع الشعب الفلسطيني من البريطانيين ان يكتبوا إلى نوابهم ويؤكدوا أن القضاء لا بد أن يبقى مستقلاًّ وله الحق في اعتقال من يستحق وفقاً لأدلة كافية. وأبلغت إسرائيل بريطانيا بتعليق الحوار الاستراتيجي معها، ما دفع لندن إلى الوعد بتغيير هذه القوانين، في خطوة أثارت استنكار الفلسطينيين إضافة إلى نواب وقضائيين بريطانيين رأوا فيها انحيازاً بريطانياً إلى إسرائيل. جامعة الدول العربية ادّعت أخيراً، على استحياء وبعد جهد جهيد، لنفسها شرف إرسال لجنة تقصي الحقائق إلى غزة، مكونة من شخصيات مشهود لها بالنزاهة والكفاءة والحياد، وعلى رأسهم القاضي الإفريقي جون دوجارت من اجل توثيق معالم الجريمة الأخيرة في غزة، والحقيقة المؤلمة أن هذه اللجنة ليس لها عنوان بمفهوم الغطاء الرسمي الدولي، أما أعضاؤها فليسوا سوى متطوعين، وما تقريرها سوى حبر على ورق، أرسل أخيراً إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والى المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية لويس اوكامبو، علماً أن هؤلاء أجابوا بحقيقة الإجراءات قبل الانتهاء من إعداد التقرير. من خلال ذلك كله نجد الضعف العربي في إعداد قانون لتقديم مجرمي الحرب للمحاكمة، ونجد تواطوءاً أميركياً أوروبياً من شأنه أن يجعل قادة الاحتلال مجرمي الحرب أحراراً.