ربما كان البطء في التغير الاجتماعي الذي يتطلب عقوداً من الأعوام، سبب في بقاء ورسوخ العديد من العادات الاجتماعية الضاربة التي قد تستنكرها الشريعة الإسلامية وتنبذها، وجاءت مسألة التقاضي بين الأقارب شرارة متصاعدة أخذت طريقها في الاشتعال لتأخذ مكانها بين أروقة المحاكم وملفات القضاة. ونتيجة للضغوط الأسرية التي لا يحتملها البعض ومقدار الظلم الذي ينتشر بين أكثر الناس قرابة، أصبحت المحاكم ملجأ أخيراً للفتاة حين يصر والدها على عضلها، ووجهة للأخ الذي يرفض التجاوز عن دين أخيه... وهكذا. لكن الخبراء والمهتمين يختلفون حول ما إذا كان التسرع في رفع القضايا إلى المحاكم يسهل حل معضلات الأقارب أم يعززها، كما أن عدداً منهم رفض دور شيخ القبيلة في قضايا الأقارب، ولكن لأسباب قد تختلف وجاهتها من شخص إلى آخر. اعتبر المحامي المستشار القانوني خالد الشهراني «التقاضي بين الأقارب والإخوان مثل بقية القضايا المنظورة في المحاكم، التي يسعى فيها القاضي دائماً إلى تحقيق العدل بين المتقاضين، وذلك بالتأني والتروي في سماع كل أطراف الخصومة، سواء كانوا إخواناً أو أبناء عم، أو سواهم. وأشار إلى أن نزاعات الميراث، «أغلبها لابد أن ينتهي بالمحكمة، لأنه إذا كان جميع الورثة متفقين في ما بينهم على نصيب كل فرد، فقد يكون هناك قُصّر لابد أن تباشر أنصبتهم المحكمة عن طريق هيئة النظر، لذا فإن هذه النزاعات لا نرى فيها أي غضاضة لا سيما أن الشرع مطْهرة للجميع، وسيرضى به الخصوم طالما أعطي كل ذي حق حقه». واستطرد: «نحن نقرّ بأن مجتمعنا يسوده الترابط وثقافة العيب بين القبائل، إلا أن اللجوء إلى شيخ القبيلة لفض النزاعات يقلل من شأن القاضي أو المحامي، لأن اللجوء لشيخ القبيلة باتفاق الطرفين المتخاصمين لا يختلف عن نظام التحكيم المعمول به في المملكة والصادر بموجب مرسوم ملكي، فالطرفان قد يتفقان على اللجوء إلى التحكيم في حالة وجود أي مشكلات بينهما من دون اللجوء إلى القضاء، وفي حال لجوء أحدهما إلى القضاء فعلى الطرف الآخر التمسك بالتحكيم المنصوص عليه بينهما». لكن الذي يعيب الاحتكام إلى شيخ القبيلة في نظر الشهراني أن «حكمه لا يجوز الاعتراض عليه، أو اللجوء للجهة الأعلى منه مثل ما أعطانا النظام هذه الحقوق، كما أن القضاء السعودي يحمل على عاتقه المسؤولية الكبرى، ومن مسؤولية القاضي أنه لا ينظر لأشخاص بعينهم ولكن ينظر إلى الموضوع من كل جوانبه دون النظر إلى أشخاص أو عائلات أو سعوديين أو مقيمين». وعن تأثير العلاقات الاجتماعية بين الأقارب بعد التقاضي قال: «القضاء مطْهرة للجميع، ومن المفترض ألا تتأثر العلاقة بعد التقاضي، لا سيما بعد أن يحصل كل من المتقاضين على حقه، وإذا رأوا أن هذا الحكم عادل بينهما». أما إذا كان هناك اتفاق شكلي بين الطرفين على شيء معين في عمل أو خلافه من شراء أو بيع، واستغل ذلك أحدهما بموجب سند موقع من الطرفين، وقام بتقديم شكوى إلى القضاء وهو يعلم عدم صحة ما تقدم به من مستندات، واستطاع بذلك الحصول على حكم من القضاء، فإنه بالفعل ستحدث رواسب وحزازات عميقة ليست بينهما فقط، ولكن بين جميع أفراد الأسرة قد تحدث بعض الانشقاقات بينهم، ليس بسبب تقدم أحدهما للقضاء ولكن بسبب عدم استحقاقه الحكم الذي صدر من صالحه من دون وجه حق، ومن دون المراعاة لاتفاق أسري قد تم على أساس الثقة المتبادلة والقرابة بينهما. من جانبه، أكد رئيس المحكمة الجزائية في مكةالمكرمة الدكتور محمد الظافري ل«الحياة» أن شيوخ القبائل كانت لهم قوتهم وسطوتهم سابقاً، ولهم والقيمة الاجتماعية التي لا زالوا يتمتعون بها، إلا أن طبيعة كثير من الخلافات تجعل حلها في القضاء أنسب. وأضاف: «نسبة كبيرة من القضايا الواردة تخص الأزواج وأبناء العمومة وأكثر الخلافات في نواحي مادية، وهناك فتيات قمن بتقديم دعاوى قضائية ضد آبائهن بتهمة العضل، ومنهن فتاة سعودية شكت أباها لرفضه تزويجها رجلاً من جنسية عربية أخرى، وقمنا بتزويجها لعدم وجود أي مانع شرعي وأخلاقي، فالتوافق لا يكون في العصبية والنسب، والشقاق قد يزيد عند المرافعات بين الأقارب، وتنظر المحكمة الجزئية الآن قضية طبيبة سعودية شكت والدها لأنه رفض تزويجها من زميلها في العمل، وانتهت القضية بتزويجها الطبيب، وعند رفض والدها واعتراضه على الحكم لا يحق له ذلك، لأن الولاية العامة عند القاضي، كما أن المحكمة الجزائية في مكة تنظر الآن دعوى أخرى لسعودي قام برفع قضية على أخيه بتهمة عدم تسديده لمبلغ تسعة آلاف ريال، وإذا لم يتمكن من السداد طلب إيداعه في السجن».