إنها «ثورة» المناخ، وقد باتت بنداً على جداول أعمال الدول بأجمعها. ولم يكن مؤتمر «كوب 16» COP 16 الذي اختتم أعماله في بلدة «كانكون» في المكسيك، سوى محطّة على طريق اهتمام البشر حاضراً بالمناخ واضطراباته. منذ «قمة الأرض» في ريو دي جانيرو عام 1992، تتبنى أعداد متزايدة من الدول، نداء أطلقته الاممالمتحدة ل «إنقاذ أمنا الأرض» من العوامل المؤدية إلى ارتفاع درجة حرارتها، والتي تنعكس سلبياً على أشكال الحيّاة فيها. نحو مزيد من التطرّف تكرّرت في مؤتمر «كانكون» العناوين التي ناقشتها قمم مُشابهة سابقة، خصوصاً تلك المتعلقة باتفاقية كيوتو للحدّ من انبعاث غازات التلوّث المُسبّبة لظاهرة الاحتباس الحراري Global Warming. وجرى تبادل الحجج بين أطراف «كانكون»، على وقع ثلوج غزيرة ومفاجئة طمرت باريس، وفيضانات أغرقت مناطق زراعية واسعة في استراليا، وتصحّر يقرض مساحات متزايدة من الدول العربية، وتناقص في كميات مياه الأمطار في كثير من الدول وغيرها. وتحدّث الدكتور ميشال أفرام عضو «المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة» («إيكاردا» ICARDA) عن هذه الأمور، مبيّناً وجود مؤشّرات متواصلة الى الإضطراب في المناخ مثل ارتفاع درجات الحرارة، نقص هطول الامطار والإضطراب في فترات هطولها، الانتقال السريع من الدفء إلى البرودة، انخفاض الرطوبة في فترات كثيرة من السنة على غرار ما شهده لبنان أخيراً في أواخر الخريف وأوائل الشتاء، حدوث فيضانات بصورة غير اعتيادية، وكذلك الحال بالنسبة الى اشتعال الحرائق الضخمة وغيرها. وتوقع أفرام أن تتجه هذه المؤشرات نحو مزيد من التطرّف مستقبلاً، وأضاف: «لا أحد يمكنه التكهّن بالفترة التي تستمر فيها هذه المتغيّرات التي تحتاج الى وقت طويل كي تُعالج بطريقة جدية». وأشار أفرام إلى محدودية مقررات «كانكون» التي انتهت إلى إعطاء دعم مالي للدول النامية لتعالج مشاكلها، ما يخالف أمراً بديهياً هو أن لا أحد يمكنه معالجة مشاكل المناخ منفصلاً، خصوصاً من دون الدول الصناعية. وقد فشل «كانكون» في التوافق على مصير بروتوكول «كيوتو» الذي ألزم مجموعة من الدول الصناعية، بأن تحدّ من انبعاث غازات التلوّث. والمعلوم أن أميركا وقّعت هذا البروتوكول بيد الرئيس بيل كلينتون، ثم سحب الرئيس جورج بوش هذا التوقيع، عقب وصوله الى الرئاسة. وبيّن أفرام أن الدول العربية مدعوة للبدء بتطبيق بعض الحلول في المناخ تتركّز على تخفيف الأضرار الناجمة عن اضطراب المناخ مثل تحسين استخدام المياه، تطوير الاستفادة من مياه الامطار، تغيير أنماط الزراعة، ترشيد استخدام المياه في المنازل وزيادة مساحات الغابات بالتشجير المستدام وغيرها. وشدّد أفرام على ضرورة نشر ثقافة مخاطر المتغيرات المناخية، ما يجعل الناس يدركون أن المشكلة أبعد من أن تغرق أوروبا في الثلوج في وقت يحترق فيه الشرق الأوسط بقلّة الماء وارتفاع الحرارة. ولا تظهر الدول العربية عموماً، وعياً كافياً بإنعكاس مشاكل المناخ عليها. ولم تبادر الى صوغ سياسة إقليمية مشتركة بهذا الصدد، كما لا يسمع فيها صوت يربط بين مشاكل المناخ وإنفلات والأنماط الإقتصادية التي تفاقمها. ثلاثية مؤلمة استعاد أفرام صرخة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، في مؤتمر «كانكون»، «صحة الكوكب في خطر»، ما يعني أن انعكاسات المتغيرات المناخية مستمرّة في التفاقم. وتناول ثلاثية الانسان والمياه والزراعة، باعتبارها محوراً أساسياً في رصد تأثير المناخ. ورأى أن المتغيرات المناخية تُؤثّر في النشاط الإنساني، مثل التبدّل الذي تُحدِثه في حركة السياحة. وضرب مثلاً على ذلك أن بعض القرى الجبلية في لبنان بدأت استخدام مكيّفات التبريد صيفاً، ما يجعلها مشابهة من حيث نمط الحياة لمدن الخليج العربي. واستطرد للحديث عن اختزال الفصول الأربعة بفصلي الشتاء والصيف، ومشكلة الأمن الغذائي، إضافة إلى اختفاء أسراب النحل التي اعتبرها مؤشراً فعلياً الى التجدّد في دورة الحياة الزراعية بالنظر الى الدور الذي يؤديه النحل في تلاقح النبات. وأورد أفرام احصاءات تشير إلى أن 30 في المئة من مجموع النحل في لبنان قد اختفى، مع توقّع انخفاض في الإنتاج الزراعي، ما يفاقم سوء الأحوال اقتصادياً واجتماعياً. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة الى العلاقة بين البيئة وانتشار الأمراض والأوبئة. فقد أعرب تقرير ل «منظمة الصحة العالمية» (1996) عن مخاوفه من تزايد أعداد البعوض الناقل للملاريا، بأثر من ارتفاع الحرارة، وهو مثال مباشر عن العلاقة بين الوباء والمناخ. وليس من المجازفة الحديث عن العلاقة بين طبائع البشر وأحوال المناخ، وهو أمر تحدّث عنه عالم الاجتماع الشهير ابن خلدون. وفي هذا السياق، توقّع الدكتور طلال عتريسي، أستاذ مادة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية حصول تغيّرات ملحوظة في العادات والطبائع والملابس والعلاقات الاجتماعية وهندسة بناء البيوت. وطرح عتريسي أسئلة مثل: هل يصل الإضطراب في المناخ إلى حد اختفاء طبائع شعوب عُرِفت بالفرح والميل إلى الرقص والموسيقى؟ هل تصبح أكثر كآبة؟ ورأى عتريسي أن استقرار الطباع ومعه السلوك الانساني، له علاقة باستقرار العادات، مشيراً إلى أن شدّة الحرّ وطول مدته يجعلان الانسان الذي لم يعتده أكثر ضيقاً وأسرع غضباً. وسأل: «هل تتأقلّم طباع البشر مع التغيّر في المناخ؟ هل ترتفع حدّة الصراعات بين بني البشر؟ هل تكون التكنولوجيا بوسائلها المتطورة، عاجزة عن تقديم ما يلزم لرحة الانسان؟ هل نشهد عودة إلى الاساليب القديمة في المأكل والتدفئة، مع عودة بعض الدفء إلى العلاقات الانسانية؟ وفي قراءة للمخاوف من الإضطراب في المناخ، يتوافق أفرام وعتريسي على أن الانسان عبث بالطبيعة فخلق مشاكل بيده، وبالتالي فإن الطبيعة تعمل على إعادة التوازن، ربما على حساب الانسان. وفي المحصلة أيضاً، قد تكون إعادة النظر في محتوى مادة الجغرافيا في المدارس، أمراً لا بد منه. في مؤتمر منتجع كانكون التقى ممثلون ل193 دولة وما يقارب 15 ألفاً من منظمات غير حكومية، لكنهم «توافقوا» على تأجيل المواضيع الأكثر أهمية في شأن المناخ، مثل بروتوكول «كيوتو»، إلى مؤتمر العام المقبل في دوربان في جنوب أفريقيا. وعليه يمكن طرح السؤال: هل سيكون عدد الدول المشاركة على ما هو عليه الآن؟ أم أن الجزر الخائفة من «انقراضها» بالغرق تحت الماء، ستكون اختفت فعلياً؟