للأزهر الشريف تراث عريق في تأصيل الدعوة للسلام العالمي، وفي الدعوة لتوثيق روابط الأخوة الإنسانية الإسلامية، والإسلامية الإنسانية. وحسناً فعل الذين أدرجوا مشيخة الأزهر ضمن برنامج زيارة فرنسيس الأول بابا الفاتيكان لمصر يومي 28 و 29 نيسان (أبريل) الجاري. وحسناً أن جعلوا شعار الزيارة «بابا السلام في مصر السلام»، ويتمنى كل إنسان أن يكون هذا الشعار حقيقة وواقعاً. وهنا، وبهذه المناسبة، قراءة في نموذج فريد قدمه، قبل واحد وثمانين عاماً، الشيخُ محمد مصطفى المراغي، في بيان أصول السلام الإسلامي والأخوة الإنسانية. في سنة 1355ه/1936م دُعيَ الشيخُ المراغي شيخُ الأزهر للمشاركة في «مؤتمر الأديان العالمي» الذي عقدَ في لندن في تلك السنة للبحث في موضوع «الزمالة الإنسانية». كانت غالبية شعوب الإنسانية وقتها قد اصطلت بنيران الحرب العالمية الأولى. وبعد أقل من عقدين كانتْ نذرُ الحرب الثانية تلوحُ من جديدٍ انطلاقاً من قلب القارة الأوروبية العجوز نفسها. اختلفتْ موضوعاتُ المؤتمر وسياقاتُه وملابساتُه الزمانية والمكانية كلَّ الاختلاف عن آخر الجداليات الكبرى التي جرت بين أتباع الديانات الثلاث في ما بين القرنين: الثالث الهجري/التاسع الميلادي، والثامن الهجري/الخامس عشر الميلادي. كانت تلك الجداليةُ القديمة «صاعقةً»؛ لأنها تناولت بالنقدِ والتفنيدِ مسائلَ تدخلُ في أصول الاعتقاد وأسس الإيمان. كانت تبحثُ في عوامل الشقاق لا الوفاق. أما رؤساءُ الأديان (اليهودية والمسيحية والإسلام) الذين شاركوا في مؤتمر لندن فقد كانوا في جملَتهم «مصعوقين» بما جرى إبانَ الحرب العالمية الأولى وما تلاها من فظائعَ ضد الإنسانية، وما رافقها وأعقبها من صعودِ نزعات الإلحاد والعنصرية والتحلل الأخلاقي والإباحية. ولهذا لم تتسعْ أعمالُ مؤتمرهم إلا ل «المشتركات» الكبرى بين الأديان، وكيف يمكن أن تتأسس عليها «زمالة إنسانية» تساهم في إنقاذ البشريةِ من سوء المصيرين: الدنيوي، والأخروي. حملَ توجيهُ الدعوةِ للشيخ المراغي كي يشاركَ في أعمال ذلك المؤتمر تقديراً عالياً للأزهر الشريف وما يتمتعُ به من مكانةٍ رفيعة في نفوس ملايين المسلمين الذين كانت بلادُهم وأرواحهم من ضحايا فظائع تلك الحروب الأوروبية؛ وهي الفظائع التي دفعت الشيخَ نفسه إبان الحرب الثانية، وعلى غير رغبة من سلطات الاحتلال البريطاني، ليقولَ بصوت عالٍ في خطبةِ الجمعة بمسجد الرفاعي بالقاهرة: «أسألُ الله أنْ يجنِّبنا ويلاتِ حربٍ لا ناقةَ لنا فيها ولا جمل». كتبَ الشيخ المراغي رسالته للمؤتمر في اثنتي عشرة صفحة ونصف الصفحة فقط. وعلى رغمَ صغر حجمها؛ إلا أنها جاءتْ شديدةَ العمق وبالغة الاتساع في آن واحد. وكل من يقرأُها اليوم يدرك كم كان الشيخ النفري( صوفي عراقي من أهل القرن الرابع الهجري) محقاً في قولته الشهيرة: «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». وإضافة إلى ذلك فإن رسالة المراغي مترعةُ بشعورِ النفس المطمئنة، إلى جانب أنها ذاتُ نَفَسٍ نقدي أصيل، ونزوع عملي وثراء معرفي: أصولياً ومقاصدياً، وإنسانياً، لا تخطئه العين. أَظهرُ ما يلوح من هذه الرسالة هو بناؤها النظري المتماسك والمتناسق. حيث تقوم على أربعة أركان هي: التدين، والنقد، والمشترك الديني، والتوجه العملي. وهي تشكل في مجموعها اجتهاداً وتجديداً في مسألة «الزمالة الإنسانية» وفق المرجعية الإسلامية. ولا يزالُ هذا الاجتهاد صالحاً، في نظري، إلى يومنا هذا. أما «التدينُ» فهو المفهومُ المركزي الذي طرحه الشيخ المراغي باعتباره «الدواء» لما تعانيه الإنسانيةُ من فرقةٍ وتعصب، وحروبٍ وجوع روحي. وقد اختار لفظ «التدين» وميَّزه بدقةٍ بالغة عن مطلق مفهوم «الدين». وبذلك كشف الشيخ عن أن المهم هو مآلُ الدين في الواقع الاجتماعي، وليست نصوصُه المجردة وحدها. وأن هذا المآل لا يمكن بحثُه أو تقديرُه إلا من خلال أفعال التدين والأخلاق العملية وسلوكيات المتدينين وما تفضي إليه. وهو يرى أن التدين بهذا المعنى يعبر «عما يحفزُ الإنسانَ إلى عملِ الخير، والتعاونِ؛ بما يعادلُ، على الأقل، نزعةَ الأنانية والأثرة المرتكزة في النفس الإنسانية، ويبعدها عن الشر». وكلما تعزز التدين بهذا المعنى، قويت عوامل الأمن والسلام والاستقرار، والعكس بالعكس. لا يوافقُ الشيخ رأيَ القائلين إنَّ التقدمَ العلمي والفلسفي هو الدواء لأدواء الإنسانية. ويستدلُ على خطأ هذا الرأي بدليلٍ واقعي لا يختلفُ عليه اثنان وهو أنَّ: الحروبَ تزيد هولاً ووحشيةً كلما زادَ تقدم العلم، وكلما أغرقت الفلسفةُ في النزعة المادية. كما لا يوافقُ الشيخُ على مذهبِ الأخلاقيين الذين يقولون إن وصولَ الإنسان لحب الخير وكره الشر لذاتهما، سيغني عن الدين والتدين. ويقول إن هذا الرأي لا يمكنه الإجابة عن: كيف نهذِّب الدهماءَ الذين تلهيهم (الضرورات) من أول أدوار الحياة عما سواها؟. ويعود ليؤكد أن طريقَ التدين أيسرُ وأفعلُ في النفس؛ فهو يرفع الإنسان إلى ما فوق الاعتزاز باللون والجاه والطبقة والثروة، والأنانية، والحقدِ. وهو الذي يكرمُ النفسَ ويدفعُها للمعرفة والحكمة. ومن هنا تقوى رغبةُ المتدين في تعزيز «الأخوة الإنسانية». والمسؤولية الأولى ل «أهل الأديان» في رأيه هي: جعلُ التدين أداةً فعالة في تهذيب الجماعة، وتمكينُ العوامل المعنوية التي تشتركُ فيها الأديان من التأثيرِ في الحياةِ الإنسانية الواقعيةِ، وبذلك تصيرُ الفضائلُ العمليةُ التي تدعو إليها الأديان كلَّها نظماً عملية، ويقلُّ فتك الشرور بالإنسانية...، وتدنو من الإخاء الإنساني». الركنُ الثاني في بناءِ الرسالة هو: «النقد»؛ وقد مارسَه الشيخُ ببراعة ولباقة في أكثرَ من اتجاه، ووزعه على أكثر من موضوع، ولم يجمعه في مكان واحد. فهو وجَّه نقداً غيرَ مباشر وقاسٍ لتاريخ التدين القهري الذي مارسته الكنيسة في العصور الوسطى الأوروبية. مؤكداً أنَّ الإنسانيةَ نالها عسفٌ كثير بسبب السلطة الروحية وأصحابها(ص12)، ثم يردفُ هذا النقد بالطيبِ من القول فيقولُ:» ومن الحق أن تظفرَ الإنسانيةُ بالطمأنينة من هذا الخطرِ، لتدعَ للتدين ورجال الدين أن يعمَلوا على إسعادها، وتأكيدِ الوحدة الدينية قولاً وعملاً، وإقناع الأجيال الحاضرة بأن رجالَ الدين لا يطمحون إلى رغباتٍ ماديةٍ، ولا إلى سيطرة الحكم والجاه». ثم يصوب نقده في موضعٍ آخر باتجاه انحراف علاقة الدين بالعلم، فيقول:» «في الوقت الذي حسمَ الرقي العقلي غير قليل من أسباب الخلافِ بين الناس، اصطدمَ الدينُ بالعلم التجريبي، وظهرَ أن بعض الأديان ليست لديها قدرة على استيعاب الآراء الفلسفية والأدبية الجديدة التي تدعو إلى الخير والفضائل العملية، إضافة إلى ما كشفت عنه البحوث الاجتماعية والنفسية من نتائج لم يتقبلها بعض رجال الدين». وكي يُتمَّ نقدَه؛ فإنه لمْ يفُته أن ينددَ بمشاركةِ بعض أهل الأديان في «حشد الجنود للقتال»؛ بينما المفترض أنهم موضع الأمل ومعقد الرجاء في السلام العالمي. وكل هذا في نظر الشيخ كان من أسباب الجرأةِ على الدين، وشيوع الإلحاد، واتساع الهوة بينه وبين العلم ووقائع الحياة الحديثة. وأما الركن الثالث فهو:»المشتركُ الديني». وقصدَ به كلَّ ما يجمع الأديان الثلاثة، وهو ما عبر عنه القرآن الكريم ب «الدين القيم». ويظهر أن الشيخَ المراغي يعتبر هذا المشترك الديني هو المعادل الموضوعي للمشترك الإنساني؛ إذ يقررُ أن كلَّ الأديان اعتمدت على أصل راسخ من غريزة التدين، وأن هذه الحياة صائرة إلى غاية من المسؤولية المجازاة. هذا إضافة إلى أن ما في الأديان من أسس صالحة ترمي إلى الخير، وأن يكون الفرد عضواً نافعاً في المجتمع يعايشُ أخاه بالمعروف، ويدفع عنه النوائب، ويدعم أواصرَ المودة الإنسانية. ثم إن هذا «المشتركَ الديني» في رأي الشيخ، يجمعُ أهل الأديان في مجموعتين من الأغراض: الأولى معنويةٌ تستهدف إزاحةَ العللِ التي حالت دون تأثير الشعور الديني في تقريبِ ما بين الناس، والثانيةُ عمليةٌ تتمثل في جعل التدين أداة فعالة في تهذيب الجماعة، وتمكين العوامل المعنوية التي تشترك فيها الأديان من التأثير في الحياة الإنسانية الواقعية». وفي نورِ ما سبق؛ يؤسسُ المراغي ل «التوجه العملي» وهو الركن الرابع في اجتهاده وتجديده. وهو يرى أن نقطةَ البدايةِ هي: تحقيقُ «الزمالةِ بين رؤساء الأديانِ أنفسهم». ويقدم سببين أساسيينِ يسوغان البدءَ بهم وهما: أنهم الأقدُر من غيرهم على إدراك المعاني السامية التي تشترك فيها دياناتهم. وأنهم الأكفأ لبيان أن الخطر الذي يداهم الإنسانية لا يجيء أبداً من أديان المخالفين، وإنما يجيء من أهل الإلحاد ومذاهب المادة، ومن الذين يستهينون بتعاليم الأديان ويتخذونها هزواً ولعباً. بعد ذلكَ يقترحُ الشيخ تكوين هيئتين من أهل الأديان: الهيئة الأولى للقيام ب «الدعوة الدينية العامة». ومهمتها الأساسية هي: تنقيةُ الشعور الديني من الضغائن والأحقاد؛ وذلك بتوجيه الوعظ في الأديان المختلفة إلى الاتجاه الإنساني، بالأساليب التي يقررها أهل كل دين. وجمع كل المعاني الإنسانية السامية، من: الرفقِ بالبشر، والبر بهم من حيث هم أفراد من نوعِ الإنسان من دون نظرٍ إلى الفوارق الأخرى. وإذاعة ذلك بمختلف الوسائل في مختلف اللغات، وجعل الدعوة العامة للأديان قائمة على أساسٍ عقلي محض، وحبٍ للحقيقة، ورغبةٍ صادقة في الوصول إليها، مع البعد عن الاحتيال لذلك، وقصر الجهد على إبراز ما في الدين المدعو إليه من محاسن، وهذه الهيئة تقوم بحسم ما ينشأ عن اعتداء الدعاة حسماً شريفاً صادق الرغبة في المسالمة. والهيئةُ الثانية تكون «خاصةً»، ومهمتها تقويةُ الشعور الديني عند الطبقات المستنيرة؛ فتعنى بتأييدِ مركز التدين أمام البحث العلمي والتفكير الحر. ويعود إلى النقد مجدداً فيقول إن هذا التأييد يتعينُ أن يقومَ على احترام العقلِ، والبعدِ عن الوسائل الإرهابية، وعن التضليل، وعن الارتكان إلى السلطة الروحية المستبدة، وبالجملة: الابتعاد عن أخطاء الماضي التي دفعت الإنسانيةُ ثمنها باهظاً. ويَقترحُ أن تتشكلَ لهذه الهيئة الخاصةِ ثلاثُ شعبٍ: الأولى تحددُ ما بين العلم التجريبي والدين من خلافٍ قائم أو خلاف يستجد، ولا تجعل الدينَ يجهرُ بما يخالفُ المحسوسَ المشاهدَ. والثانية تحتفي بالآراء الخُلقية، وتميزُ الفضائل النافعة عن التي تجور على الحياة المعنوية بتأثير الأطماع والرذائل. والثالثة تتابع الدراساتِ الاجتماعية الحديثة، وتبين ما فيها من مواضع الخير، وتكشف عن مكامن الهوى المفسد للحياة. ويذاع كلُّ ذلك بالأسلوبِ الصحيح ليسمع الناس الرأي الصالح المؤّيَّدَ بالبرهان. ثم يوصي الشيخُ أهل الأديان وصيتين عمليتين تساهمان حال تنفيذهما في تعزيز أواصر الأخوة الإنسانية. الأولى: أن يعملوا على توجيه التشريعِ في بلدانهم إلى تأييد الأصول العامة المشتركة في الأديان؛ فيقاومُ التشريعُ الزنا، ويحمي الأسرةَ، ويعاقبُ على الكذب والغيبة والنميمة والوقيعة، ولو لم تُصَور في جرائم مادية، ويراقبُ المكاسبَ الخبيثة ويحرمها، ويحظرُ الجشع والخداع وغير ذلك مما جاءت الأديان لاستئصال شروره. والوصية الثانية: أن تكونَ وسائلُ أهل الأديان في تحقيق أهدافهم بعيدةً عن التدخل في أصول السياسة والاصطدام بها، وأن تعتمد على تأييدِ الجماعات وتنميةِ الشعور الديني بالفضيلة. لقد شيد الشيخ اجتهاده في هذا النص تشييداً أصولياً ومقاصدياً من بدايته إلى نهايته، على رغم أن صياغته تبدو لأول وهلة كأنها ليست من جنس لغة الأصوليين أو المقاصديين. وقدم تعريفاً تاريخياً ونفسياً واجتماعياً لهذه الزمالة، مؤكداً أنها ليست فكرة فلسفية، بل هي «حاجة طبيعية تولدت في النوع البشري منذ أدركَ أن ارتباط الأفراد بعضهم ببعض يساعد على قطع مفاوز الحياة بأمان، ويعود عليه بالخير». وهذه الزمالة تفرضها الضرورة، ويقتضيها العقل، ويُعنى بها الإسلامُ. ذلك هو مضمونُ «رسالة الزمالة الإنسانيةِ» التي قدمها الشيخ قبل واحد وثمانين سنة. ولا تزال غضة وصالحة لليوم والغد. وخير للبشرية أن تأخذ بهذا الاجتهاد، ولا يزال الشراع فوق سطح الماء. وخسارةٌ كبيرة أن تظل هذه الرسالة مخبوءةً لا يعرُفها إلا القليلُ من المتخصصين(أعيدَ نشرها مرة واحدة قبل سنواتِ عدة كهدية لمجلة الأزهر)، وألا يسارع المسؤولون إلى وضعها ضمن المقررات الدراسية في مختلف بلدان العالم؛ لا العالم الإسلامي وحده . والأخسرُ من ذلك هو أن يظل «أهل الأديان» في حواراتهم الراهنة يبدأون من الصفر كل مرةٍ، ولا يبنون على ما جاء في رسالة المراغي وما في حكمها، ويضعونها موضع التنفيذ كما كانَ يأملُ، وكما سنظلُّ نأملُ.