الكل في مصر يتحدث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، والكل حائر، لا يرى كيف يكون التجديد وما هي عناصره، وكيف يتم؟ في البداية يحتاج تجديد الخطاب الديني إلى بيئة صحية ولن يتم في مجتمع مهترئ، كما لن يتم إلا في ظلال تصويب الخطاب الإعلامي والتعليمي والثقافي والسياسي والاجتماعي وإقامة العدل السياسي والاجتماعي معاً. لقد أصبح تجديد الخطاب الديني أشبه ب «اللوغاريتم» أو «الشفرة» التي يعجز القوم عن فكها مع أنها غاية في البساطة واليسر، وتتلخص في أمرين هما: حذف الخطاب الديني المتطرف والمتشدد وإحلال آخر وسطي صحيح يجمع بين ثوابت الدين ومتغيرات الحياة، وبين الواجب والواقع والدين والحياة، بحيث نقدم فكراً متجدداً لعالم متغير. ويمكننا تطبيق هذه النظرية كالآتي: أولاً: خطاب الهداية لا التكفير: الله سبحانه تعبّدنا بهداية الخلائق وليس تكفيرهم أو تفسيقهم، والدعاة مهمتهم الهداية وليس الحكم على الناس، أما القضاة فمهمتهم الحكم، فلن يسأل الله أحدنا: كم كفرت أو فسقت؟ ولكن سيسأله: كم هديت وكم رغّبت الناس في الحق والخير وكم قرّبتهم من الله؟ فنحن دعاة لا قضاة، ودعاة لا ولاة، ودعاة لا بغاة، ودعاة لا قساة. ثانياً: خطاب الإخوة لا العداوة: وخطاب الإخوة هو خطاب الرسل جميعاً، فالداعية بحق يحب كل الناس المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي والهندوسي والسني والشيعي. والداعية الذي لا يحب الناس عليه أن يغادر ميدان الدعوة، لأنها في المقام الأول والأخير «حب الناس» وإرادة الخير لهم جميعاً، أما الداعية الذي يكره الناس فعليه أن يصحح إيمانه، فالداعية بينه وبين الناس جميعاً رحم لا يقطع أبداً. ثالثاً: خطاب الثبات والمرونة: بعض الإسلاميين يريد تحويل المتغيرات إلى ثوابت وبعض غلاة العلمانيين يريد تحويل ثوابت الإسلام إلى متغيرات سائلة لا معنى لها، لكن الصحيح هو أن نكون مع ثوابت الإسلام في صلابة الحديد ومع متغيراته في مرونة الحرير. رابعاً: خطاب الإحياء لا القتل: كل الأنفس معصومة لا يجوز الاعتداء عليها بأي شكل أو لون، وكل النفوس سواسية في العصمة، فالإسلام جاء للإحياء ومعه كل الأديان، فمن قتل نفساً واحدة فكأنما قتل الناس جميعاً. خامساً: خطاب السلام لا الحرب: الأصل في الإسلام السلام، والحرب هي استثناء من هذا الأصل، وعلّة الحرب هي الدفاع لا العدوان، وهي واضحة في قوله تعالى: «وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا»، فليست العلة في الحرب اختلاف الدين أو العرق أو المذهب، فعلة القتال هي المقاتلة. سادساً: خطاب التعايش لا الإقصاء: ليس هناك سبيل سوى أن يعيش المسيحي إلى جوار المسلم، والمسلم إلى جوار اليهودي، والعسكري إلى جوار المدني والإسلامي، والسني إلى جوار الشيعي، والمسلم إلى جوار البوذي أو الهندوسي أو السيخي، فلن يستطيع دين أو مذهب أو عرق أن يمحو الدين أو المذهب أو العرق الآخر. وقد أوضح القرآن هذه القضية: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، فالعلة هي التعايش والتلاقي والتعاون والتعارف وليس التقاتل والإقصاء والإفناء. لقد تقاتل الكاثوليك والبروتستانت عقوداً كاملة في أوروبا، فأنتج هذا الصراع آلاف القتلى والجرحى والدمار واليتم، ولم يجدوا وسيلة لحل هذا الصراع سوى «نظرية الحقيبة السوداء»، وتعني أن نضع أحقادنا وثاراتنا وصراعاتنا ونزاعاتنا السابقة في حقيبة سوداء وندفنها ثم نلعن ونحارب من يخرجها مرة أخرى. فلنكن سواءً أمام القانون ولنفكر في الجوامع المشتركة المعيشية التي تجعلنا سعداء سوياً، ونترك لكل واحد منا دينه ومذهبه وعرقه ولا نكرهه على تغييره، طالما لم يخرق القانون العام أو يستخدم العنف. سابعاً: ندعو للناس ولا ندعو عليهم: فأسوأ ما أصاب الخطاب الإسلامي في الفترة الأخيرة الدعاء على المخالفين في الدين أو المذهب أو الموقف السياسي لا الدعاء لهم، فيمكن لخطيب الجمعة أن يدعو على الأميركيين والإنكليز والفرنسيين واليهود والروس والشيعة إن كان سنياً، أو يدعو على السنة والسلفيين واليهود إن كان شيعياً، فترى خطيب الجمعة يكاد يدعو على نصف الكرة الأرضية مع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) رفض أن يدعو على «ثقيف» أو «دوس» أو «أبي هريرة» على رغم ما كان منهم جميعاً ولكنه دعا لهم. وعندما دعا على قبائل «رعل وذكوان» لجرائمهم الفظيعة وقتلهم الصحابة غيلة وغدراً نهاه الله عن ذلك قائلاً: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» فمهمة العلماء والدعاة والإسلاميين جميعاً الدعاء للناس لا الدعاء عليهم. ثامناً: خطاب العفاف لا التفحُّش: أسوأ ما أصاب الحركة الإسلامية بعد ثورات الربيع العربي ظهور خطاب التفحُّش، وإذا جاز التفحُّش من كل أحد فإنه لا يجوز ممن نسب نفسه إلى الدين الذي يناشد المسلمين في القرآن «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» أو ممن يتبع الرسول (صلى الله عليه وسلم) عف اللسان القائل «إن الله يكره الفاحش البذيء»، وإنني لأعجب حينما أرى بعض الإسلاميين يسبّون خصومهم السياسيين دون حياء أو خجل، بكلمات كان البلطجي قديماً يستحي من استخدامها. وأسوأ من الفحش من يبرر الفحش. ولا يمكن لدين يمدح رسوله ب «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ثم يبيح لأتباعه أو دعاته استخدام التفحش في مواجهة خصومه، وقد أدى هذا التفحش إلى تفحش مضاد أسوأ منه يطعن في الأعراض في شكل غير مسبوق في تاريخ العرب والمسلمين. تاسعاً: خطاب لا يخلط بين السماوي والبشري والدعوي والحزبي: في السنوات الماضية تمّ الخلط المعيب بين العقائدي الثابت والسياسي المتغير، وبين السماوي الغيبي الذي لا يعلمه إلا الله والبشري الذي يخضع لأسباب الدنيا، وبين الدعوي الثابت والحزبي المتغير، مثل الذي قال على منصة اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة العدوية»: «الذي لا يؤمن بعودة مرسي عليه أن يشك في إيمانه» و «الملائكة نزلت في رابعة»، وأمثلة أخرى كثيرة تحوّل فيها النسبي إلى مطلق، والمختلف فيه إلى متفق عليه، والسياسي إلى عقائدي والمتغير إلى ثابت. * قيادي سابق في «الجماعة الإسلامية» في مصر