في الغالب الأعم جرى تداول ظاهرة التمرد «الحوثية» عبر مختلف وسائل الإعلام، كدلالة وتسمية اختزالية تطلق على عصابة ضالة وظلامية إجرامية ظهرت في محافظة صعدة شمال اليمن، وأعلنت التمرد والخروج المسلح على النظام والقانون والشرعية الدستورية، لا تعترف بالدولة والنظام الجمهوري، تدّعي بما تعتبره حقها الإلهي في السلطة وتقاتل الدولة على أمل استعادة النظام الإمامي البائد المنحدر من (البطنين) كما يدعون، جاءت هذه التسمية نسبة إلى مؤسس هذه الجماعة وزعيمها الروحي وقائدها العسكري حسين بدر الدين الحوثي الذي لقي مصرعه في العام 2004م ليرثه بعد ذلك أخواه عبدالملك، ويحيى هذه الزعامة. في الآونة الأخيرة دخل على الأدبيات السياسية والثقافية والعسكرية والتاريخية اليمنية مفهوم «حركة التمرد الحوثية» وتداولته بشكل واسع مختلف وسائل الإعلام العربية والأجنبية في تناولها وقائع الأحداث في محافظة صعدة.. وفي اعتقادي أن الوقت لايزال مبكراً لوضع تحديد واضح ومعنى دقيق وسليم لهذا المفهوم في القاموس السياسي واليمني بالذات، حيث لايزال استخدامه من قبل وسائل الإعلام والمثقفين والسياسيين داخلياً وخارجياً محكوماً بطبيعة الأهداف والميولات والقناعات الذاتية، وماهية التوظيف السياسي والديني التي يرجوها كل طرف من استخدام مثل هكذا مفهوم.. من خلال متابعة كل ما يبث وينشر نجد اختلافا وتعدد استخدامات وتوظيف في هذا المفهوم عبر وسائل الإعلام والأدبيات السياسية والدينية، باختلاف أهداف ومصالح وأبعاد استخدامه من قبل هذا الطرف أو ذاك، فنجد أن الموالين للحوثية يستخدمون هذا المفهوم للدلالة على جماعة من السكان تنتمي إلى آل البيت، وتعاني من الاضطهاد المذهبي، وهذا الطرف يسقط من اعتباراته الجذور الفكرية والعقائدية المذهبية والتاريخية والأهداف الحقيقية لهذه الجماعة وارتباطاتها الخارجية، ويسعى إلى تبرير وشرعنة كل جرائم هذه العصابة، ويقدم لها مختلف أشكال الدعم، في الجهة المقابلة نجد أن مفهوم «حركة التمرد الحوثية» شاع استخدامه داخلياً وخارجياً بأشكال ومضامين متعددة بتعدد سمات وأساليب ووسائل وأهداف هذه الحركة، فنجده عند بعضهم عنواناً رئيساً لحقيقة الفتنة التي يشهدها بعض مديريات محافظة صعدة، وبعضهم الآخر يستخدمه للدلالة على تيار عقائدي مذهبي متطرف وإرهابي دخيل على الساحة الوطنية وقيمها وتسامحها المذهبي.. ومثّل خروجاً على قيم ومبادئ الدين الإسلامي وإجماع الأمة، وهناك من يختزل مضامين هذا المفهوم في تسمية تطلق على عصابة إجرامية وظفت الخطاب السياسي الديني بشكل خاطئ واستخدمته مظلة عقائدية للخروج على الشرعية الدستورية والإجماع الوطني والتمرد المسلح على الدولة، وبعضهم استخدم مفهوم «حركة التمرد الحوثية» للتعبير عن جماعة سياسية متطرفة تقوم على العنصرية السلالية تتطلع للسيطرة على السلطة بوسائل غير مشروعة. مع صوابية جميع هذه الدلالات التعريفية لحركة الحوثية والمعبرة بدرجة رئيسة عن السجايا الظاهرية والممارسات والوسائل العملية التدميرية، إلا أن دراسة الحوثية كظاهرة دينية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية ستظل غير كافية، إذا أغفلنا مصادرها ومنابعها التاريخية والعقائدية المذهبية والسياسية والثقافية ضمن سياق تاريخي شامل ومتكامل يستوعب ماضيها ويحلل بموضوعية معطياتها المعاصرة ويستشف بدقة آفاقها المستقبلية، وتفاعلها وتأثيرها التبادلي مع اطارها «الديني والاجتماعي والسياسي» بأبعاده الداخلية والخارجية. فتنة الحوثية ليست ظاهرة عرضية طارئة، وليست كما يدعيها أصحابها وصناعها ويروج لها في أوساط البسطاء بأنها جاءت من السماء وموحى بها من رب العالمين، أو أنها أحد أشكال الجهاد المقدس ضد اليهود الأمريكان الذي اختزله صناع هذه الفتنة في الشعار الخميني الشهير «الموت لأمريكا الموت لإسرائيل» وجعله شعاراً لهذه الحركة بهدف تضليل البسطاء واستقطابهم إلى صفوفها. الحوثية ظاهرة تاريخية معاصرة، لا يمكن فصلها عن متغيرات العصر على جميع المستويات «السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والروحية»، وما تحتمه من صراعات تناحرية من أجل الهيمنة والنفوذ والمصالح الاستراتيجية.. وتمثل الحوثية في احد مظاهرها الراهنة أداة ووسيلة مسخرة في هذا الصراع، وما يطلق عليهم بالمؤسسين والزعامات الروحية، وأئمة هذه الحركة هم رجال سياسة محترفون يحملون مشروعاً فكرياً وأهدافاً سياسية واضحة، وأجندة عملية تسلسلية.. استغلوا انتماءهم إلى آل البيت ومكانتهم الروحية وسط السكان، ومهاراتهم في توظيف الخطاب الديني لخدمة مشاريعهم السياسية، ونجحوا إلى حد كبير في تحويل رسالة الدين عن أهدافها الحقيقية المرسخة لخدمة المواطنين وهدايتهم، إلى وسيلة لتزييف وعيهم وتحويلهم إلى خدام وأدوات لتحقيق مشاريعهم السياسية، ووظفوا في سبيل ذلك من النصوص الشرعية والسنن النبوية ما يخدم توجهاتهم الفكرية، وتطلعاتهم السلطوية، وما يتطابق مع الواقع المتخيل في أدمغتهم.. وقد استفاد هؤلاء من إشكالات ومعطيات الواقع السياسي اليمني المعاصر، والحريات والحقوق الديمقراطية ومبادئها ومؤسساتها المختلفة، وبما يوفره النظام والمجتمع من ضمانات تشريعية ومؤسسية لهذه الحريات والحقوق، واستفادوا من تطور تقنيات الاتصال والإعلام والنشر والفضاء المفتوح؛ للترويج لقناعاتهم وأهدافهم وأفكارهم الظلامية وسخروها في أسوأ وأبشع عملية ابتزاز وتوظيف خاطئ للخطاب الديني؛ لتزييف الوعي وضرب الوحدة الاجتماعية والعقائدية والسياسية للشعب، وإثارة وإشاعة الفتن في المجتمع.. من الناحية الفكرية العقائدية وأهدافها ومشروعها السياسي، تمثل الحوثية امتداداً عضوياً متطوراً ومعاصراً لنهج الإمامة الموجه لترسيخ ثقافة الجهل وإضعاف وحدة المكوّن التاريخي والديني والحضاري والفكري للمجتمع، وإضعاف وتمزيق صلابة مكوّن نسيجه الاجتماعي ووحدته العضوية، عبر تفسيخ وتحليل قيمه الأخلاقية والروحية، والوطنية والإنسانية. منذ قدومها إلى اليمن استطاعت الإمامة على مدى أكثر من ألف ومائتي سنة، من فرض سيطرتها وسطوتها الكهنوتية وأشعلت فتنها وخاضت حروبها ضد الوطن والشعب وأنظمته الوطنية، باسم الدين وتحت شعار الحق المقدس والولاية الإلهية واستعادة ما تعتقده حقها المسلوب في السلطة التي يرونها حكراً في البطنين. باسم الدين حكمت الوطن، وبتوظيفها للخطاب الديني جيشت الشعب في حروب لا تنتهي، بعضه ضد بعض، ودمرت كل مقومات استقراره وأمنه، وأجهضت تطلعاته المشروعة في العلم والبناء والرقي الحضاري.. وتحت شعار واجب الجهاد المقدس والدفاع عن الدين والاستشهاد بين يدي أحفاد الرسول عليه السلام، خاضت الإمامة حروبها ضد أبناء الوطن والحركات الوطنية التحررية والمطالبين بالخروج من ربقة ظلمها وعبوديتها، وبنفس الخطاب السياسي الديني التضليلي والظلامي الذي تستخدمه الحوثية اليوم تمكن أئمة الأمس من جعل أبناء الوطن وقوداً لحروب أقطابها المتصارعة من الإخوة وأبناء العم في سبيل السلطة والثروة وحصة كل منهم من الخراج والجبايات. مشروع الحوثية اليوم هو نفسه مشروع أجدادهم الأئمة بالأمس، فقد مسخت الإمامة هذا الشعب العظيم، ودمرت فيه كل العوامل والقيم الإيجابية وجذور تكوينه الحضاري والوجداني، وحولته إلى جماعات من القبائل المتناحرة الغارقة في الجهل والأمية تحكمها نزعات تدميرية، وثقافة الحروب والثارات والتمردات وقطع الطرق وامتهان كرامة الإنسان، ما يريده الحوثيون لهذا الوطن اليوم هو ما أراده أجدادهم بالأمس، حيث تحولت اليمن على أيديهم من دولة قوية وحاضنة حضارية ومركز إشعاع ثقافي واقتصادي وعمراني وتجاري ثري بخيراته وعطائه الحضاري الإنساني إلى كيانات متناحرة، ومسرح مفتوح لحروب داخلية لا تنتهي، شاع فيه الخراب والدمار والفقر وكل أشكال المآسي والويلات والأوبئة. رغم نجاح الشعب اليمني في القضاء على الإمامة كنظام سياسي سلالي عنصري كهنوتي متخلف، وقضى على كل بدعها الزائفة ومعتقداتها وقناعاتها التي فرضتها على المجتمع، بما في ذلك ادعاؤها بالحق الإلهي في السلطة والثروة، وتوارثها، إلا أن التركة الإمامية وموروثها الفكري الثقافي ظلا في كثير من الحالات متأصلين في البنية العقلية التي لم تتحرر من ارتباطاتها السلبية بالواقع وبيئته القبلية، بكل عاداتها وتقاليدها وثقافتها المتخلفة، وبالذات في أوساط قطاع واسع من سكان المناطق النائية التي ظل تحولها التدريجي إلى البيئة الحضرية المعاصرة بطيئاً ومحاصراً بكثير من العراقيل والمعوقات التاريخية والجغرافية والعلاقات السائدة، ومثال على ذلك محافظة صعدة، حيث البيئة الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية المعقدة المترنحة في مكانها وإطارها القديم، ملائمة لإعادة استزراع بذور الإمامة بكل أصولها الفكرية والعقائدية المسخرة، ووظيفتها لتغذية الصراعات والفتن الداخلية، وكانت ثمرتها الجديدة متمثلة بالحوثية الوجه المعاصر للإمامة. مثل غيرها من حركات الخوارج التي سبقتها بعدة قرون، بدأت الحركة الحوثية ممارسة نشاطها السري مقتفية أثر أسلافها الخوارج في الفكر ووسائل وأساليب العمل والبناء التنظيمي العنقودي، وخلال فترة حضانة وكُمونٍ سري ليست بالقصيرة تمكنت الحوثية من بث فيروساتها المرضية المعدية في أوساط قطاع كبير من الشباب والبسطاء من سكان محافظة صعدة، مستخدمة في ذلك كثيرا من الآليات والمؤسسات الديمقراطية والمدارس الدينية والمساجد والجمعيات الخيرية والأعياد والمناسبات المذهبية، وسخرت في سبيل ذلك آلية إعلامية دعائية سياسية ومذهبية فاعلة، باعتماد الحركة مبدأ (التُّقية) في ممارسة الأعمال غير المشروعة، وتجنباً للمساءلة والمعاقبة، كانوا يظهرون من الشعارات والمبررات لكل عمل ما لا يبطنون من الأهداف والغايات الحقيقية من هذا العمل، ونجحت الحوثية في إخفاء حقيقتها المرعبة وغاياتها الخطيرة تحت أسماء وشعارات وأهداف ومصالح اجتماعية ووطنية وتربوية دينية، وأعمال خيرية، وتمكنت خلال هذه الفترة من العمل السري من إرساء مداميك قواعدها (الاثني عشرية) داخل نسيج المذهب الزيدي، بهدف احتوائه وإخراجه عن سياقه ومبادئه كمذهب وصفه العلامة الشماحي بأنه: «مذهب واقع وحقائق لا خيالات وأوهام، ولا تصورات وشطحات وأحلام، ولا مذهب ألغاز ومعميات، ولا مذهب كرامات وأولياء، ومعجزات وعصمة أئمة، ولا مذهب واسطة بين العبد وربه إلا عمل العبد وإيمانه». بدعوة الانتماء إلى المذهب الزيدي ومدارسه الدينية تمكنت الحوثية من توسيع قاعدتها الاجتماعية، وتطوير بنيتها التحتية المادية والفكرية وآلياتها العملية وخطابها السياسي الديني داخل المجتمع، وبناء جهازها العسكري. أول ظهور علني في أهدافه لهذه الجماعة المتمردة كان من خلال منظمة الشباب المؤمن التي أعلنت عن وجودها كتنظيم سياسي عسكري عقائدي وجهادي غير مشروع، هذا التنظيم تبنى فكرة الجهاد تحت شعار «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل»، من جانبه المؤسس والقائد الروحي لهذه الجماعة حسين بدر الدين الحوثي حدًّد أولويات الجهاد في تحقيق هذا الشعار في محاضرة ألقاها في 12/1/2002م تحت عنوان «التوالي لليهود وخطورته»، في هذه المحاضرة يتجلى بوضوح أن مشكلة الحوثية ليست مع أمريكا وإسرائيل بل مع الخلفاء الراشدين. مثل هذه القناعات والأفكار التي يقدمها مؤسس الحركة كبرامج وأهداف عملية لمنظمة الشباب المؤمن، إنما تكشف عن زيف الشعارات المستخدمة لتضليل الناس وخداع البسطاء، وتجييشهم ضد الدولة والمجتمع، والتمرد المسلح على الشرعية الدستورية، وبالقدر ذاته تكشف عن أن هذه الحركة اعتنقت مذهباً فكرياً وافداً، وذلك لدواع سياسية ذات أبعاد وطنية وإقليمية، بهدف تصفية ثارات سياسية قديمة مع النظام والشعب في اليمن، وهذا ما جعل من هذه الحركة عبئاً جديداً وظاهرة سلبية خطرة على واقع المجتمع اليمني وخصوصياته، ومحاولة جعله إحدى الحلقات الرئيسة في صراع مصالح ونفوذ إقليمية تحت شعارات مذهبية ودينية. أول أشكال المواجهة والتصدي لهذه العصابة الحوثية جاءت من داخل المذهب الزيدي الذي وجدها علماؤه خروجاً صارخاً عن المذهب، وعن نهج الدين السليم والقويم ومبادئه وقيمه الحقة، كما وجدها هؤلاء العلماء خروجاً على الثوابت والإجماع الوطني وقواعد وأخلاقيات وتقاليد الشعب، وتحاول بشتى الوسائل والأساليب الممكنة استغلال المناخ الديمقراطي لخلق بؤر التوترات الاجتماعية والتمزقات الداخلية على أسس عقائدية. وفي رده على ادعاءات زعيم الحركة التي يدّعي فيها أن الزيدية تحكم بِضَلال الخلفاء الراشدين، وأنهم سبب الاقتتال بين المسلمين. يقول الإمام عبدالله بن حمزة: «إن هذه الدعوى على الزيدية غير صحيحة، ولا زالت مستمرة، لأنها تزعم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ضلوا وأضلوا فكيف يعتقدون ذلك فيهم وهم خيار الأمة، وبهم أعز الله دينه ونصر نبيه وهم حماة شرع الإسلام... وما سبب القتل والقتال بين الأمة إلا الشيطان وأتباع الهوى وغلبة حب الدنيا» منذ البدايات الأولى التي بدأت فيها الحركة توضح بشكل مباشر أو غير مباشر عن توجهاتها الاثني عشرية وأهدافها وبرامجها السياسية، برزت الانشقاقات بين قياداتها وفقهائها المؤسسين لمنظمة الشباب المؤمن، وأعلن العديد من هذه القيادات انسلاخهم عنها بعد أن أدركوا خروجها عن المذهب الزيدي، وتبنيها المذهب «الاثني عشري» والسعي إلى تحويلها إلى أداة سياسية غير وطنية ذات ارتباطات خارجية، توفر لها الدعم المادي والإعلامي والسياسي والمرجعية المذهبية، وعمد الحوثيون إلى الإساءة لكل حلفائهم وعناصرهم الذين شاركوهم تأسيس تنظيم الشباب المؤمن، واختلفوا معهم في الرأي والأهداف وتشويه مكانتهم الدينية وتاريخهم السياسي وقناعاتهم المذهبية، وناصب الحوثيون العداء علماء الزيدية من أهل الاجتهاد والرأي والعقل والمدافعين والمتمسكين بأصل مذهبهم الزيدي، وكذلك ناصبوا العداء كل من يختلف معهم في الرأي وفي الأفكار والمفاهيم العقائدية الكهنوتية والخرافية الضحلة ويعارض مشاريعهم السياسية الإمامية. * رئيس تحرير صحيفة 26 سبتمبر اليمنية