ليس من المتفق عليه بين المثقفين في العالم العربي أن المصالح الأميركية في الشرق الأوسط تتناقض مع المصالح الإسرائيلية، وكثيرون منا يقولون إن العكس هو الصحيح، بل إن بعضهم يذهب الى أبعد من ذلك، فيصر على ان مصالح أميركا الوطنية الكبرى هي التي تملي عليها هذا التحيز غير المعقول الى إسرائيل. وكون أميركا اليوم الزعيمَ الحقيقي للغرب، حضارياً وسياسياً وعسكرياً، وأهمَّ أعضاء حلف «الناتو»، ومع ذلك لا تجد دولة غربية واحدة، بما في ذلك فرنسا، منحازة الى إسرائيل بدرجة انحياز أميركا نفسها، فإن هذا بالنسبة الى الكثيرين من مثقفي اليسار أو مثقفي اليمين الحركي المؤدلج، لا يغيِّر شيئاً من اقتناعهم بأن إسرائيل تخدم المصالح الأميركية الوطنية، سواء كان الاقتناع بريئاً، بسبب نقص في معرفة ما يجري في مطابخ أميركا السياسية، أو لأسباب أيديولوجية سياسية بحتة. ***** الرئيس جيمي كارتر يعتقد جازماً أن انحياز أميركا الى إسرائيل يُلحق أضراراً شديدة وكثيرة بأمن أميركا الوطني وبمصالحها الحقيقية، الاقتصادية وغير الاقتصادية. أعضاء مجلس الشيوخ السابقون: أولبرايت، تشارلز بيرسي، مايكل هاتفيلد، جيمس ابو رزق... وغيرهم وغيرهم من أعضاء مجلس النواب السابقين، بالطبع لا الحاليين، اجمعوا على أن انحياز أميركا الى إسرائيل يكلف أميركا أعلى التكاليف، أمنياً واقتصادياً ودبلوماسياً، بخاصة مع حلفائها وأصدقائها في العالم أجمع. وكذلك قال الجنرال بيترايوس، قائد القوات الأميركية والحلفاء في أفغانستان. ***** جوش روبنز، الذي يحمل الجنسيتين الأميركية والإسرائيلية، قام بحرق أوراقه العسكرية الإسرائيلية أمام السفارة الإسرائيلية في واشنطن احتجاجاً على تأثير إسرائيل غير المحمود على السياسة الأميركية. ويرأس هذا اليهودي الأميركي الإسرائيلي منظمة تدخل تحت مظلتها نحو 325 منظمة، أكثرها منظمات يهودية أو برئاسة يهود، تدعو جميعها الى إحلال سلام عادل دائم حفاظاً على مصالح أميركا الحقيقية، ليس في العالمين العربي والإسلامي فحسب بل في العالم أجمع الذي يشمئز أغلب سكانه من سياسة أميركا الخارجية في الشرق الأوسط. ***** أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو البروفيسور جون ميرش هايمر، وزميله أستاذ العلوم السياسية في معهد كينيدي في جامعة هارفرد ستيفن والت، كتبا كتاباً موثقاً كسب احتراماً وثناءً أكاديمياً في العالم أجمع، تحت عنوان «اللوبي الإسرائيلي وسياسة أميركا الخارجية». وملخصه ان تحيز أميركا الى جانب إسرائيل لا يخدم مصالح أميركا، بل يلحق بمصالحها الوطنية العليا أشد الأضرار، ومع ذلك حدث هذا التحيز ولا يزال يحدث، لسبب واحد فقط وهو نفوذ «اللوبي الإسرائيلي» لا أقل ولا أكثر. وكلا هذين الأستاذين المتميزين أكاديمياً ولد في بيتين يهوديين، ولذلك لا يخشيان كثيراً من وصفهما بعداوة السامية أو عداوة اليهود من أجل يهوديتهم، وهو السلاح الفاعل الذي ترفعه «لوبيات» إسرائيل في وجه أي ناقد. ***** الجنرال الإسرائيلي عاموس غلعاد، رئيس المكتب السياسي في وزارة الدفاع الإسرائيلية، قال حينما ظن ان حديثه سيبقى سراً: «بلى، المصالح الإسرائيلية قد تتناقض مع المصالح الأميركية الوطنية العليا»، أي بما معناه انه، وبسبب هذا التناقض، لا بد من تجنيد «اللوبي الإسرائيلي» ليضمن لإسرائيل تفوقها العسكري على جميع دول الشرق الأوسط، حتى لو كانت مصالح أميركا الوطنية العليا تملي عليها، على الأقل، معاملة جميع أصدقائها في المنطقة بالتساوي. ***** ولكن، قد يظن نفرٌ منا، ممن يرون ان تحيز أميركا الى إسرائيل تمليه مصالحها الوطنية، أنهم لا يستطيعون ان يتصوروا أن قوة عظمى عسكرياً وعلمياً واقتصادياً، يستطيع ان يسيطر على سياستها الخارجية «لوبي» يخدم مصالح دولة أجنبية لو لم يكن ما يطالب به «اللوبي» الإسرائيلي يصب في صهريج المصالح الأميركية الذاتية. وربما ان أسباب هذا الاعتقاد أيديولوجية بحتة تخدم مصالح أحزاب سياسية سنية وشيعية باسم الإسلام. وربما أنها تعود إلى بقايا أيديولوجية عربية يسارية تضاءلت. وربما أنها لأسباب أخرى. وفوق كل ذي علم عليم. أما مَن وردت أسماؤهم، فإنهم يعرفون كيف تتم الانتخابات الأميركية، خاصة لمجلس النواب، وبدرجة أقل لمجلس الشيوخ، ثم الانتخابات الرئاسية. وهذا هو السبب الأهم الذي يجعل أعضاء الكونغرس والإدارة السابقين هم الذين ينتقدون إسرائيل. أما الحاليون، فيخافون خوف الآمنين من الإرهاب الذي تمارسه منظمة «ايباك» ضد نقاد إسرائيل. وقد قال مرة احد أقطاب اللوبي الإسرائيلي (ايباك): استطيع ان احصل على توقيع 75 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي المئة على ظهر هذا «المنديل»، في المطعم الذي كان يتناول فيه عشاءه في العاصمة واشنطن، حينما ظن أنه لم يسمعه أحد غير أصدقائه الجالسين معه. أي أنه يستطيع الحصول على توقيع ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشيوخ على «بياض» بسبب قوة نفوذ «ايباك». ولم ينف قط هذه المقولة حينما تم نشر حديثه في كتاب موثق. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.