أن تنهار العملية السياسية وتفشل الإدارة الأميركية لعجزها عن الضغط على بنيامين نتانياهو شيء، وترك واشنطن المنطقة في مهب الريح والفراغ شيء آخر. إذا كانت التسوية مستحيلة، أو هكذا جعلها اليمين الإسرائيلي، فإن الولاياتالمتحدة ليست مستعدة للمجازفة بانزلاق المنطقة إلى الأسوأ. لا بد من الإيحاء بأنها لا تزال ملتزمة عملية السلام. لذلك سيأتي المبعوث جورج ميتشل إلى الشرق الأوسط في تكتيك جديد، بعدما فشلت محاولات إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي بوقف الاستيطان ولو لتسعين يوماً. يأتي المبعوث ليدشن صيغة جديدة: المفاوضات المتوازية، أي مفاوضات غير مباشرة، لكنها ستتناول هذه المرة كل قضايا الحل النهائي، كما صرحت هيلاري كلينتون، التي أعلنت ان الخطر لا يأتي من إيران وحدها بل من غياب التسوية واستمرار الاحتلال الاسرائيلي، مجددة رفضها الاستيطان غير القانوني. كأن ذاكرة المنطقة مثقوبة: جربت السلطة نتانياهو في التسعينات، فقادها هذا إلى تدمير كل مقومات اتفاقات أوسلو، وجربت هذه السنة طوال أشهر المفاوضاتِ غير المباشرة، ثم لشهرٍ المفاوضات المباشرة، ولم تسفر العملية عن أي نتيجة. الإيجابية الوحيدة من هذه التجارب أنها كشفت ضعف إدارة الرئيس باراك أوباما، أو جهلها على الأصح. ألم يعترف أوباما نفسه بأنه لم يكن يعتقد بأن القضية بمثل هذا التعقيد والصعوبة؟ فشل تكتيك رهن التفاوض بوقف الاستيطان، وتورَّطَ محمود عباس بهذا الشرط، مع أنه كان يعرف سلفاً أن كل تجارب المفاوضات السابقة جرى في ظل الاستيطان، بل يعرف العالم أيضاً أن إسرائيل قامت على الاستيطان الذي لم يتوقف منذ 1948 وما قبلها، ورسخت فكرة المستوطنات في الأراضي التي احتلت في 1967 لمنع قيام أي دولة فلسطينية قابلة للحياة مستقبلا.ً يجب أن تعترف الإدارة بأن الحاجة ليست إلى تكتيك جديد بقدر ما تحتاج إلى استراتيجية واضحة تفرض التسوية وشروطها استناداً إلى قرارات الشرعية الدولية بدل الاكتفاء بالقول إن الاستيطان عمل غير شرعي! تحدثت دوائر أميركية، أوائل السنة، أن إدارة أوباما ستعد لتسوية تفرضها على الطرفين المتصارعين، بل إن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي صرح علناً في حينه بأن واشنطن ستتقدم بمثل هذه التسوية وتفرضها. ولكن تبين أن لا قدرة للإدارة على فرض أي شيء. وحتى أوروبا تبدو عاجزة عن أداء أي دور، وهي اكتفت بالتعامل مع القضية على أساس أنها قضية إنسانية واجتماعية... ناهيك عن غياب اللجنة الرباعية. لا يمكن الولاياتالمتحدة أن تتخلى عن المبادرة لإبقاء العملية السياسية ولو في إطار «الإدارة والانتظار»، لئلا يغري الفراغ الطامحين إلى أداء أدوار أو تقديم مقاربات ومشاريع في منطقة جعلتها الولاياتالمتحدة منذ قيام إسرائيل في صلب مصالحها الاستراتيجية، الأمنية والعسكرية والنفطية. لن تتخلى عن تجديد المحاولات ما دامت حروبها مفتوحة، من أفغانستان إلى العراق، إلى مواجهة الارهاب، من باكستان إلى اليمن إلى شمال أفريقيا... لا بد إذاً من أن تستعد المنطقة لحال من اللاحرب واللاسلم. لن تتخلى واشنطن عن المحاولة، مع أن الجميع يعرفون أن العملية السياسية ماتت عملياً، فالمشكلة لم تعد في تعنت إسرائيل وضعف واشنطن والانقسام الفلسطيني والعجز العربي فحسب، بل المشكلة هي في غياب أي بارقة أمل بعد «الأوهام» التي عُلِّقت على الرئيس الأميركي الجديد. المشكلة أن أحداً في الجانب العربي والفلسطيني، بعد جنوح المجتمع الاسرائيلي نحو يمين اليمين ونحو عنصرية فاضحة، لم يعد يؤمن بأن السلام ممكن. وسيعزِّز هذا الاقتناع، معطوفاً على فشل الادارة الأميركية طوال عامين، معسكرَ أولئك الذين عارضوا في صفوف الطرفين المفاوضات في السابق. أظهرت الشهور الماضية من هذه التجربة الأميركية، خطأ تحويل المحادثات إلى جدل عقيم في مدى قدرة إدارة أوباما على الضغط على إسرائيل وإلزام نتانياهو بوقف الاستيطان شرطاً لأي محادثات. وهو خطأ وقعت فيه أيضاً السلطة الفلسطينية التي كان يجب أن تركز على الاحتلال، كما قال الرئيس بشار الأسد. وبما أن الانتخابات النصفية أظهرت مدى ضعف الإدارة الحالية، فإن ذلك يعني انعدام القدرة على ممارستها أي ضغط في الصيغة الجديدة من المفاوضات المتوازية التي يحملها ميتشل اليوم إلى المنطقة. كل ما يمكن أن يقدمه الأميركيون ومبعوثهم هو محاولة إدارة الأزمة في انتظار ما ستكشف عنه تطورات كثيرة، على رأسها المفاوضات بين إيران والدول الكبرى في شأن الملف النووي. أليس ملفتاً أن تنهار كل الصيغ والحوافز التي طرحتها واشنطن على نتانياهو بالتزامن مع استئناف المفاوضات بين الجمهورية الاسلامية والدول الخمس الكبرى وألمانيا حول هذا الملف؟! كيف ستحل «المفاوضات المتوازية» مثلاً مسألتي الأمن والحدود؟ فعندما تشدد إسرائيل على موضوع الأمن، فإن المنطق يعني ربطها ربطاً محكماً بين الملف النووي الإيراني والتسوية، ونجحت في ذلك، وأظهرت «وثائق ويكيليكس» أن الأولويات في المنطقة هي للملف الإيراني. ولم يبق سوى تقديم إسرائيل نفسها مظلة لا بد منها لحماية العرب، خصوصاً أهل الخليج، من صواريخ إيران وقنبلتها النووية! وهكذا، لم يعد حل القضية الفلسطينية حاجة ملحة للحفاظ على السلم والاستقرار في المنطقة، وأولاً وأخيراً للحفاظ على المصالح الأميركية وأمن القوات والقواعد الأميركية المنتشرة في المنطقة العربية أو في الشرق الأوسط الكبير! وقد يلتقط نتانياهو، للتخفيف من موجة الاستياء الدولي، الطموح الفرنسي لمعاودة إحياء المسار السوري، خصوصاً إذا نجح في رتق العلاقات مع تركيا. فإسرائيل تدرك حيوية العلاقات واستراتيجيتها مع هذه الدولة الإسلامية الكبرى في المنطقة... من دون أن يعني ذلك احتمال تحقيق اختراق. لم يعد ملف التسوية أولوية أميركية. ستحاول الادارة إبقاء «وهم» المفاوضات قائماً ليتفرغ الرئيس أوباما لمعركة التجديد بعد سنتين. في هذه الأثناء يرتاح نتانياهو من كابوس سقوط حكومته وفرط عقد الائتلاف، بل يمكنه أن يقطع الطريق على مزايدات أفيغدور ليبرمان وبعض أركان «ليكود». يمكنه أن يزهو بقدرته على الصمود في وجه واشنطن. وهو ما لم يقدر عليه اسحق شامير في عز قوته عشية انطلاق قطار مدريد، يوم أوقف الرئيس بوش الأب ضمانات القروض (عشرة بلايين دولار) لإرغامه على القبول بالتفاوض. وفي هذه الأثناء، يمكن السلطة الفلسطينية الحفاظ على «سلطتها» في ظل انسداد الأفق أمام أي مصالحة داخلية، ويمكنها أن تحظى بتغطية عربية لأي موقف قد تتخذه ما دامت لا تزال تؤمن بجدوى التفاوض، أو أنها لا تملك سوى هذا الخيار، ما دامت تعتقد بأن الخيارات التي لوحت بها لا قيمة لها، لأن معظمها سيصطدم بإرادة من لا يملك إرادة قادرة على الضغط على إسرائيل. أعلنت السلطة أنها تملك خيارات عدة لمواجهة هذا الانسداد في العملية السياسية. تستطيع أن تعلن وفاة العملية السياسية، وأن أميركا عاجزة، إن لم تقل إنها لم تعد وسيطا ناجحاً وأنها تقف إلى جانب إسرائيل وتخشى إغضابها، وأن تسحب القضية من يدها وتنقلها إلى الأممالمتحدة ومجلس الأمن. تستطيع أن ترفع من وتيرة حركتها الديبلوماسية لتوفير اعترافات جديدة بالدولة، كما فعلت البرازيل والارجنتين... إلى آخر الخيارات المعروفة. ولكن إذا بدا الآن أن دون هذه الخيارات شروطاً ومعطيات وظروفاً صعبة، وإذا كانت ثمة رغبة لبعض العرب والفلسطينيين في إعطاء الأميركيين فرصة أخرى وإبقاء الكرة في ملعب إسرائيل والمجتمع الدولي، فإن لا شيء يحول دون أن تتقدم السلطة في «خيارات متوازية» مع «المفاوضات المتوازية». وأول الخطوات الجدية نحو الخيارات التي تلوح بها، دعوة كل الفصائل إلى اجتماع لإنهاء الانقسام. فلا تظل المساعي للمصالحة أسيرة التلهي والتشاطر للحصول على مواقع ومصالح ضيقة فيما القضية تتلاشى. لا شك في أن السلطة نجحت في حملتها الديبلوماسية بإصرارها على التفاوض ونجحت في إظهار الطرف المعرقل. لكن هذا لا يكفي، ما لم تقم استراتيجية فلسطينية واحدة تدعمها أيضاً استراتيجية عربية تظهر للإسرائيليين و... الأميركيين أيضاً ما يعنيه غياب السلام. ولا يُعْدَم العرب من أسباب القوة ما يجعل الآخرين يعيدون النظر في حساباتهم. لقد جربت «حماس» مشروعها في غزة، وجربت السطة المفاوضات بلا جدوى ولا تزال، وكلاهما لم يحقق شيئاً، لذلك لا بد من إعادة النظر في سبل العمل الفلسطيني. لا يمكن أن يظل هدف الحركة كيفية الإمساك بالقطاع وتَحَيُّن الفرص للقيام بانقلاب في الضفة لإلحاقها بغزة. لا يمكنها أمام انهيار العملية السياسية أن تظل على موقفها من الهدنة ووقف إطلاق الصواريخ من غزة، وعلى موقفها المناهض للسلطة؟ كما لا يمكن السلطة أن تستكين لجولات وجولات عقيمة من مفاوضات تكاد تفرغ القضية من كل عناصر قوتها وشرعيتها الدولية.