هذه هي الدورة الثانية للبرلمان العراقي، حيث جعلك فوزك الانتخابي والتوازنات السياسية رئيساً له. إنها مسؤولية كبيرة حقاً أن يكون المرء رئيساً للبرلمان العراقي. برلمان عراقي بعد عشرات السنين من الحروب والانقسامات كنتيجة لحكم الديكتاتورية المقيتة. والبرلمان (مكسب) كبير بحد ذاته، لكن الصراع يدور الآن حول طبيعة هذا المكسب، هل هو مكسب للعراقيين كي يوفر لهم إمكانيات إعادة بناء بلدهم وأفكارهم بعد خراب طويل، أم هو مكسب للُصوص الدولة الذين عطلوا تشريع أهم القوانين في الدورة السابقة، كقانون الأحزاب وقانون النفط، وغطوا على نهب المال العام، وجعلوا البرلمان وسيلة لحمايتهم من المحاسبة رغم وجود أصوات وطنية جريئة. إن وجود البرلمان مكسب كبير حقاً، ولكن لمصلحة من؟ هذا هو السؤال المطروح عليكم، وهذه هي مهمتكم. مهمة رجل تشخص إليه أبصار شعب برمته كي يبدأ بتحقيق العدالة التي افتقدوها طويلاً، وكي يجعلهم يطمئنون إلى أن هناك سياسيين يعتدّون بأنفسهم وغير مستعدين للتفريط بكرامتهم مقابل إغراءات السلطة والمال الحرام كما فعل كثيرون. نعم، لقد أصبح العراقيون يعانون من أزمة ثقة بسياسييهم بعد أن سقطت الأقنعة وتساقطت وجوه وعمائم كثيرة وهي تلهث وراء السحت الحرام! البارحة قال وزير التخطيط إن 70 بالمائة من موظفي الدولة هم بدون عمل، وقد تبدو هذه المشكلة إداريةً، لكننا لو تأملنا كيف تم تضخيم الجهاز الإداري لعرفنا أن وراء ذلك مخططاً سياسياً خطيراً، هدفه خلق مجتمع استهلاكي بائس ينتظر المرتب الشهري كي ينفقه على بضائع تستوردها وكالات تجارية مملوكة مباشرة أو عبر وكلاء لقادة الأحزاب المتنفذة. إن الارباح الهائلة التي يكسبها هؤلاء سنوياً دفعت بهم إلى تمويت الصناعة والزراعة العراقية، وجعْلِها غير قادرة على منافسة البضائع المستوردة، وهذا هو جوهر الفساد السياسي والاقتصادي، ولهذا السبب تم تهميش الجانب الاستثماري في الموازنات السنوية، بينما ارتفع الجانب التشغيلي لأكثر من 80 بالمائة هي رواتب الموظفين! وهذه حالة تكاد تكون فريدة في جميع دول العالم! خذ مثلاً التعطيل المقصود ل «معمل الحديد والصلب» في البصرة: ستة آلاف مهندس وعامل وموظف يستلمون رواتب شهرية من دون عمل منذ سبع سنوات، بينما يستورد العراق من إيران خمسين مليون طن حديد سنوياً! وإذا لم تكن هذه مؤامرة فكيف تكون المؤامرة إذن؟ كان السيد علي معارج البهادلي مدير هيئة حقول نفط ميسان قد أوضح «ان ايران تنتج من الحقول المشتركة كميات اكبر مما نستغله نحن، كما ان هنالك بعض الآبار العراقية العائدة لنا نُمنع من استغلالها والوصول اليها»، وكان وزير النفط الأسبق عصام الجلبي قد أوضح مراراً بأنه منذ اكتشاف النفط في العراق وإيران، لم ترد عبارة «الحقول المشتركة» في تاريخ العلاقة بين البلدين. والسؤال الذي يجب أن يناقشه برلمانكم الموقر هو: ما هي حقيقة «الحقول المشتركة» وما الذي يجري هناك حقاً؟ وبعد تفكيك وبيع مؤسسة «الخطوط الجوية العراقية» بطريقة غير مبررة، قال وزير التجارة بالوكالة ان «الدولة العراقية تتجه نحو تفكيك جميع شركات القطاع العام، شركات التمويل الذاتي، وبيعها للقطاع الخاص»! هذه هي فلسفة «العراق الجديد»، فقد أصبح قادة الاحزاب المتنفذة يعتبرون الدولة ومؤسساتها ملكاً شخصياً لهم يتصرفون بها دون حسيب، فقد تم تعطيل أكثر من مائة وعشرين مؤسسة صناعية تابعة للدولة بشكل متعمد، ويراد الآن بيعها بالمزاد، والذين سيشترونها هم طبقة أثرياء الفساد. وهكذا تصبح السلطة والثروة بيد فئة مرتشية جديدة، بينما تزداد ظاهرة البطالة المُقنَّعة ويتضخم الجهاز الإداري، وبهذه الطريقة يتم تنفيذ نظرية «العراق لا يحتاج الى صناعة وزراعة فبوسعه العيش على عائدات النفط والسياحة»! أي تحويل العراقيين إلى مجتمع استهلاكي متخلف تحكمه طغمة من فاقدي الشعور بالمسؤولية! وهكذا تتم عرقلة التطور الطبيعي للقطاع الخاص وإبعاد الكفاءات العلمية والإدارية، أي عدم فسح المجال للطبقة الوسطى أن تنشأ من جديد لتلعب دورها المطلوب سياسياً واقتصادياً، فمن دون الطبقة الوسطى لا يمكن الحديث عن دورة مال واقتصاد وطنية، وبالتالي لا يمكن الحديث عن الاستقلال والسيادة في بلد يعيش الناس فيه على البضائع المستوردة! البارحة دفع مجلس الوزراء موازنة العام 2011 إلى البرلمان كي يوافق عليها، ولكن في جميع برلمانات العالم الديموقراطي لا تتم الموافقة على الموازنة الجديدة إلا بعد مناقشة موازنة العام السابق، أي تدقيقها ومعرفة الوجوه التي أنفقت فيها، ومن دون ذلك لا يمكن إقناع المواطنين بجدية الحديث عن (القضاء على الفساد وتصحيح الأخطاء...) كما ورد في تصريحاتكم الأخيرة. عندما طُرحت موازنة 2007 للنقاش وزع نواب بياناً تفصيلياً بفقدان ثلاثة مليارات دولار من موازنة العام السابق، لكن هذا الاتهام الخطير تمَّت لفلفته ولم يناقشه أحد! العامَ نفسَه، طالب عضوان من مجلس الشيوخ الأميركي بإجراء محاسبة دقيقة وكاملة حول كيفية إنفاق الحكومة العراقية لمواردها النفطية لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار. والآن نجد أن الفساد وانعدام التخطيط الاستراتيجي لإدارة الدولة أديا إلى إهدار أكثر من ثلاثمائة مليار دولار خلال السنوات الاربع الماضية من دون أن نجد أثراً لهذه المبالغ الفلكية على الخدمات أو البنية التحتية للبلاد! والأخطر أن تراكُمَ البؤس الاجتماعي وازدياد الفئات المحرومة وترْكَها من دون حلول وأجوبة عملية بدأ يهدد مستقبل النظام الديموقراطي نفسه، لأن يأس المواطنين وشعورهم المرير بالخيبة بدأ يدفع بعض الفئات بالتبشير بالانتفاضة الشعبية، أي العودة إلى الفوضى والمصير المجهول، وكما تعرف سيادتكم، فليس هناك ديموقراطية من أجل الديموقراطية، فالديموقراطية هدفها تحقيق العدالة والأمن وتوفير الخدمات، وكل هذا أصبح مشكوكاً فيه في بلد يقوم مسؤولوه بتحريم مهرجانات الموسيقى وتحليل سرقة المال العام! إننا في حاجة إلى برلمان مختلف حقاً هذه المرة، وإلا فلا احد يعرف إلى أين ستتجه الأمور. * كاتب عراقي