شدّد عضو مجلس الشورى الدكتور فهد العنزي على أهمية «تقنين» الأحكام، مؤكداً أن كثيراً من الأحكام التي يصدرها القضاة لا تستند إلى نصوص محددة، بل يبقى المبرر الشرعي الذي استند إليه القاضي حبيس قناعاته. وأضاف في حوار مع «الحياة» أن عدم وجود نص مكتوب يفتح باباً واسعاً للتأويل وعدم الفهم. وتابع: «غياب التقنين يجعل الحكم الذي يصدره القاضي لا يرتكز على نصوص واضحة، ما يصعّب بشكل كبير مسألة الرقابة على القاضي، أو الاعتراض على الحكم الذي أصدره». وذكر العنزي الذي شغل سابقاً منصب عميد كلية الأنظمة والعلوم السياسية في جامعة الملك سعود، أن مشروع هيئة المحامين رُفع إلى المقام السامي، مؤكداً أن المحاماة مجالٌ واعد لعمل خريجات كليات الحقوق والشريعة من السعوديات، ووزارة العدل تدرس إصدار تراخيص لعمل المرأة في مجال المحاماة. واعتبر أن منح تراخيص للمحاميات السعوديات مسألة وقت، مقترحاً التدرج في المجالات التي تعمل بها المرأة محامية، كأن تبدأ في مجال الأحوال الشخصية. وفيما يلي نص الحوار: هل أصبح تقنين الأحكام ضرورة ملحة في ظل تفاوت الأحكام القضائية، خصوصاً في قضايا التعزير؟ - نعم، أعتقد أن تقنين الأحكام في وقتنا الحالي أصبح أمراً ملحاً، خصوصاً مع تفاوت الأحكام القضائية والخلافات التي تزخر بها المذاهب الفقهية، وما تحويه كتب الفقه الإسلامي، وتضارب الفتاوى. وأعتقد أن وضوح الأحكام هي أهم مسألة في عصرنا الذي يتميز باعتماده على دقة المعلومة وحضورها، وهذا لا يكون إلا من خلال نص مكتوب، يمثل مرجعية واضحة ومحددة للجميع، فعدم وجود نص مكتوب يفتح باباً واسعاً للتأويل وعدم الفهم. والبيئة العدلية السليمة لا تكون إلا من خلال تقنين واضح وشامل لجميع المبادئ والقواعد والأحكام التي تحكم المجالات المختلفة في المجتمع سواء أكانت جنائية أو أحوالاً شخصية أو غيرها. ومع ذلك فهذا لا يعني أنه لا يوجد لدينا تقنين للأحكام، فهو موجود في بعض المجالات وليس كلها، والسعودية لديها خبرة لا بأس بها في التقنين، وواءمت من خلال الأنظمة التي أصدرتها بين أحكام الشريعة والنصوص القانونية المعمول بها في كثير من الدول الحديثة، وأصبحت للسعودية تجربة رائدة في هذا المجال. والذي أعنيه هو أنه لا بد من وجود سياسة تقنين واضحة، لا أن تكون مسألة التقنين متروكة للأنظمة التي تصدر في بعض المجالات، والتي لا تنظر إلى مسألة التقنين إلا من خلال المجالات التي تعالجها، فنحن بذلك كمن يبدأ التقنين ولكن بشكل مقلوب إلى نصل في النهاية إلى وجود أنظمة كثيرة ومشتتة من دون أن تكون لدينا فلسفة تقنين واضحة. ولذلك فالتقنين الصحيح يبدأ من خلال اعتماد إطار عام ومكتوب للأصول والمجالات والمدونات الرئيسية التي ترد عليها الأنظمة فيما بعد مثل وجود تقنين للأحوال الشخصية، والعقوبات، والمعاملات المدنية وما إلى ذلك، فهذه الأشياء هي التي تؤطّر لسياسة واضحة لا تحيد عنها الأنظمة المتخصصة. والتقنين يجعل الأحكام واضحة ويعبّر عن شخصية الدولة وإرادتها بشكل واضح، ويجعل الناس على معرفة بواجباتهم وحقوقهم، ويُعِين القاضي على حسم القضايا وفقاً لنصوص واضحة ومحددة، بحيث تمثل مرجعية لحكمه وتقضي على الاجتهاد خارج النصوص، وبه تبرأ ذمة القاضي لأنه يطبق نصاً محدداً يمثل خلاصة حكم الشريعة، فوظيفة القاضي هي تطبيق النص على القضية المعروضة أمامه، وليس مطلوباً منه أبداً أن يمارس دور الفقيه الذي يستخلص النصوص ثم يقوم بتطبيقها. وكثير من الأحكام التي يصدرها القضاة لا تستند إلى نصوص محددة بل يبقى المبرر الشرعي - وليس النص - الذي استند إليه القاضي حبيس قناعاته، وهذا يقودنا إلى مسألة مهمة، وهي أنه في ظل غياب التقنين فإن الحكم الذي يصدره القاضي لا يرتكز على نصوص واضحة، ما يصعّب بشكل كبير مسألة الرقابة على القاضي، أو الاعتراض على الحكم الذي أصدره لأن الطعن أو الاعتراض يُبنى غالباً على عدم وجاهة الأسباب التي استند إليها القاضي في حكمه. وغالباً فإن الأسباب التي يتم الاعتراض عليها هي تلك المرتبطة بفهم القاضي للنصوص المكتوبة وتطبيقها على الحالة المعروضة أمامه، ولنا أن نتخيل كيف سيكون الأمر إن لم يكن هناك أصلاً نص مكتوب يحكم عمل القاضي. إلى أين وصلت هيئة المحامين؟ - بحسب تصريح وزير العدل في إحدى المناسبات أخيراً، فإن مشروع هيئة المحامين رُفع إلى المقام السامي. ومن واقع معرفتي بوزير العدل الدكتور محمد العيسى، أعتقد أنه حريص على كل ما من شأنه النهوض بالعمل القضائي، ودعم المحامين بشكل كبير، وكذلك الملف الخاص بإيجاد هيئة للمحامين تعنى بتطوير مهنة المحاماة من خلال وضع ميثاق شرف للمحامين، وتحسين سلوكياتهم المهنية، وتعزيز دورهم في تحسين البيئة العدلية التي يحرص خادم الحرمين الشريفين على أن تكون من أحسن البيئات العدلية على مستوى العالم. لم يمنع النظام المحاميات السعوديات من الحصول على ترخيص مزاولة المهنة، ما رأيك من واقع سوق العمل ومتطلبات المجتمع؟ - المرأة السعودية أثبتت وجودها في مختلف المجالات، ومجال المحاماة هو مجال واعد لعمل خريجات كليات الحقوق والشريعة من المواطنات السعوديات. كما أن خادم الحرمين الشريفين شدّد أكثر من مرة على تعزيز مشاركة المواطنات في مختلف القطاعات، وتعزيز دور المواطنات في التنمية التي تشهدها السعودية في ظل حكومة خادم الحرمين الشريفين. ووزارة العدل تدرس مسألة إصدار تراخيص لعمل المرأة في مجال المحاماة، علاوة على أن المرأة تستطيع الترافع عن نفسها أمام المحاكم بالأصالة أو الوكالة. وأعتقد أن منح التراخيص للمحاميات السعوديات هي مسألة وقت، ومن المناسب أن يتم التدرج في المجالات التي تعمل بها المرأة كمحامية، كأن يتم البدء في مجال الأحوال الشخصية مثلاً. ولا شك أن مبادرة الحاضنة القانونية التي أطلقتها رئيس جمعية مودة لقضايا الطلاق الأميرة سارة بنت مساعد لتأهيل المحاميات السعوديات من أجل العمل في المجال الذي تُعنى به الجمعية هو أمر مهم. وستعمل الجمعية التي تشرفت بأن أكون مستشاراً قانونياً لها على تنفيذ برنامج شرعي وقانوني متكامل يؤهل خريجات الشريعة والقانون للعمل في مجال المحاماة عند حصولهن على ترخيص من وزارة العدل، وسيتم اختيار المتدربات وفق معايير دقيقة، ثم إدخالهن في البرنامج لمدة عام، بحيث يحصلن على دبلوم في المحاماة ومهارات الاتصال ثم يمارسن العمل سواء في الاستشارات الشرعية أو القانونية أو المحاماة من خلال إشراف قانوني وكذلك إشراف الجمعية. ولا شك أن هذه البادرة ستكون أول حاضنة قانونية في السعودية للمحاميات السعوديات وأول برنامج موثوق به علمياً ومهارياً لتدريب المواطنات السعوديات على العمل في مجال المحاماة والاستشارات القانونية. هل ترى ضرورة لإعطاء المحامي حصانة حتى يمارس دوره بحرية كما يحصل في النقابات العربية والعالمية؟ - نعم الحصانة مهمة جداً لعمل المحامي، ولا تقل أهمية عن حصانة القاضي، فهي تمكّن المحامي من القيام بعمله على الوجه المطلوب، ونظام المحاماة الحالي نص على جزئية متعلقة بحصانة المحامي بخصوص عدم مساءلته عما يورده في مرافعته كتابة أو شفاهة في سبيل دفاعه عن موكله. هل أخذت المحاماة وضعها الطبيعي في محاكمنا الشرعية، أم أن الوعي بأهميتها لا يزال دون المستوى؟ - المحاماة في تطور مستمر، والنظرة السائدة عن المحامي والمحاماة لم تعد موجودة كما هي الحال في السابق، إذ استطاع أن يبرهن الحاجة إليه، سواء في المجتمع أو أمام الإدارات الحكومية المختلفة، ومنها الدوائر العدلية على وجه الخصوص. وأعتقد أن دور المحامي بحاجة إلى تعزيز أكثر، وذلك من خلال فهم القاضي لدوره، وأنه يمثل له عوناً على الحق وليس خصماً أو رقيباً عليه، وإصدار الأنظمة التي تعزز مكانة المحامي وتزيد الاعتماد عليه، خصوصاً في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة. كيف تصف علاقة مكاتب المحاماة الوطنية بالشركات الكبرى في السعودية؟ - أعتقد أنها علاقة مهنية نموذجية، فالمحامون لا يجدون صعوبة في فهم الشركات الكبرى لدور المحامي، والحاجة المتزايدة إليه، خصوصاً في ظل الانفتاح الاقتصادي العالمي وتعدد المجالات الاستثمارية في الداخل والخارج. والمحامي هو خير معين لهذه الشركات، سواء كانت محلية أو عالمية في أعمالها، كما أن هذه الشركات باعتبارها كياناً منظماً هي أفضل في التعامل من الأفراد. والمحامون يفضلون التعامل مع الشركات المهنية الكبيرة، التي لا تقوم على الاعتبارات الشخصية. هل أصبح وجود مكاتب محاماة للنساء متطلباً في الوقت الحاضر؟ - نعم خصوصاً بالنسبة لسيدات الأعمال اللاتي يفضّلن التعامل مع بنات جنسهن. كما أن رأس المال المملوك من سيدات أعمال سعوديات يمثل نسبة كبيرة من مجمل الاستثمارات التجارية في السعودية، وهذا يتطلب وجود كادر قانوني نسائي قادر على تقديم خدمات قانونية متكاملة لسيدات الأعمال السعوديات. ولكن عدم وجود تراخيص للمحاميات السعوديات في الوقت الحالي يحد بشكل كبير من وجود مكاتب محاماة نسائية، والمكاتب النسائية الموجودة حالياً هي مكاتب غير معترف بها، وبعضها يتبع مكاتب للمحامين الرجال، وليست لها شخصية قانونية مستقلة، ولا تلقى اهتماماً منهم لأن من يعمل في مثل هذه المكاتب من النساء ينقلن أعمالهن في النهاية إلى المحامين الرجال الذين يتولون الترافع عن زبوناتهن. ولذلك فعملهن في الوقت الحالي قاصر على الاستشارات القانونية، ولا توجد مكاتب محاماة نسائية بالمعنى الذي تحمله هذه الكلمة.