نجح الشعراء عبدالرحمن موكلي، وعبدالمحسن اليوسف، ومحمد الحرز في استقطاب سمع ومشاعر حضور أمسيتهم في أدبي الطائف مساء الثلثاء الماضي، إذ لامس كل من رموز القصيدة الحديثة في السعودية جانباً من شؤون وشجون الإنسان وفق صياغة إبداعية محكمة تجلت في توظيف الموروث عند الموكلي، ورهافة الموسيقى عند يوسف، وبلاغة النثر عند الحرز، ما أحال فضاء المكان إلى دفء وتفاعل بين الشعراء ومريديهم من مثقفي ومثقفات المحافظة والمناطق المجاورة لها. ودشن الشاعر الموكلي الأمسية التي أدارتها خديجة قاري بنص الألواح واصفاً فيه حالة شعرية مرتبطة بفضاء الأماكن مستغلاً قدرته على توظيف الموروث «من الظبية خرجت، وأظن أغواني فتى ما بصرت به، لكن تراءت لي ظلاله، فتبعته، وقيلت في ضمد فهي على طريق الحاج، وجلست في حقو الشجى، وسّعت بارقة لقلبي والة، كاذي، مغيبرة، كأني الحجاج، كدت أقول: أنا ابن هتيمل الضمدي، غاو يشاقق ليل عابسة ويزمزم المعشى، وزحفة الربشا» وثنّى بنصوص من مجاميعه الثلاث من خيلاء الدم، ولما متى وافطماه، ويخفف ثقل الروح. واستعاد الشاعر عبدالمحسن يوسف حيويته من حيوية جمهوره المتفاعل مع موسيقى النصوص المقتصدة «نخيلكِ مثقلٌ حتمًا نعم، ويدايَ فارغتانْ، ويا دانه ويا دانه ويا دانه ودان الدانْ، أغنّي أم أنا أهذي؟ سلمتِ ويسلم الهذيانْ، غناء ثانٍ نغني حينما نصفو ندسُّ الجمرَ في القمصانْ وعولٌ خلف نافذتي، ببابي تصهلُ الوديانْ، ويا دانه ويا دانه ويا دانه ودان الدانْ، مهذبّةٌ حرائقنا، وسافرةٌ هي الأحزانْ، لنا الأفواهُ قائظةٌ، وبرقٌ في دمِ الرعيانْ» مؤكداً في نصوصه قدرته الشعرية على مزج الهم العام في الخاص وإيصال رسالة بوحه بوضوح «أقولُ قصيدتي وطني ولكنْ يا لسوء الحظِّ (حظي) ثم وا أسفا تردُّ قصيدتي - تكفى - لقد جربتني وطنًا وآنَ أجرّبُ المنفى». من جهته، أعاد الشاعر محمد الحرز ثقة المتلقي في قصيدة النثر وهو يرتل من أسفاره ما فاض عن حاجته «نعم أفكّر أحياناً أني إنسان فائض عن الحاجة، يحدث ذلك إذا نظرت في شاشة التلفاز، إلى المتحدث الرسمي، بوجهه ذي الملامح الإغريقية، بابتسامته الباهتة، بمكياجه المدجن، هنا يفزعني الضجر من مائي ويملؤني بسعار الأفكار المهترئة أفكار عارية إلا من المقارنة، هو يقذف كلماته الرشيقة والمتزنة، وأنا أرمي بطيش فاضح، كلماتي على الورق، لأسمع أحدهم يهتف باسمي، لماذا استفرد بك اليأس في أول محاولة لك بالصعود إلى أعلى الجبل». وقدّم أكثر من نموذج لنصوصه من مجموعتيه «أسمال لا تتذكر دم الفريسة» و«أخف من الريش أعمق من الألم». فيما تناول المداخلون ما طرحه شعراء الأمسية من تجارب مؤكدين قدرة هذه النماذج على تغيير وجهة نظر بعض من يعتبرون قصيدة النثر جناية على الشعر. وأمطرت الشاعرة لطيفة قاري في مداخلتها الحضور بسمفونية وجع، عبّرت من خلالها عن زمن تلوث بالرواية اللاهثة واللغة السطحية، متساءلة عن قدرة الشعر على الصمود، ليتوقف الدكتور عالي القرشي عند نصوص الشعراء المعبّرة عن مدارس عدة مختلفة جداً ومتوافقة على الإبداع، مشيراً إلى أن عبدالمحسن يوسف كان من أوائل من دفعوا ودافعوا عن تجربة الشعر الجديد وفسحوا لها المجال عبر ما نشره في زاويته نافذة الكلام. ولفت أستاذ النقد في جامعة الطائف الدكتور عاطف بهجات إلى مقدرة الشعراء على التفرد بألوانهم ورؤاهم، مشيراً إلى أنه كان على وشك أن يفقد الثقة في قصيدة النثر، إلا أن شعراء الأمسية - وخاصة الحرز - استطاعوا أن يعيدوا إليه الثقة في وجودها وحيويتها، فيما تساءلت نائبة رئيسة لجنة «أدبي الطائف» النسائية سارة الأزوري عن سر استمتاع البعض بالقصيدة النثرية قراءة لا سمعا. وأكد أستاذ اللغة في جامعة الطائف الدكتور أحمد نبوي في مداخلته إلى أن الكلام عن مشروعية قصيدة النثر كلام باهت، كون الشاعر يتحقق في شخصية المبدع سواء كتب قصيدة عمودية أو تفعيلة أو نثرية، لافتاً إلى موسيقى المعنى عند الحرز، وموسيقى الموقف والحالة عند الموكلي وموسيقى المفارقات عند يوسف، ليتناول أستاذ الأدب في جامعة الطائف الدكتور محمد عطا الله التوظيف اليومي والرومانسية الثائرة على واقعها وبعث الأمة المفقودة وتواتر الجرس الموسيقي في نصوص الشعراء الثلاثة. وذهب الشاعر غرم الله الصقاعي إلى أن البطولة بطولة المكان، قبل أن تكون حميمية الإنسان وإبداع الموهبة، واصفاً جزيرة فرسان بالزافة التي تزف وادي صبيا وواحة الأحساء إلى حضن جبل الطائف. فيما استعاد المسرحي محمد ربيع التاريخ عبر أمكنة لها أبعادها لا تكشف عن نفسها بيسر ومجانية، مشيراً إلى قدرة الثقافة على لم شتات الأمكنة التي طالما اختزنت مشاعر ورغبات وملامح وأحلام ومخاوف وصور وكلام ورؤى، مضيفاً أن أرواح الشعراء وديعة تستقطب الرفقة بصوت حنون ورنين كائن يجيد الحديث مع نفسه، وعدّ ليلة أدبي الطائف غاوية ومغوية ومفعمة بالفتنة والسحر والجاذبية، كونها زينت ما قبح من واقع، وهيئت مائدة للحلم، ما دفع الحضور للاستسلام للإغواء دون وجل من وصفهم بالضحايا، لافتاً إلى أن بناة مدرجات فيفا حين تعبوا استراحوا في جزيرة فرسان. من جهته، تساءل الشاعر عبدالمحسن يوسف عن سر التفاعل والتعالق مع جمهور الأمسية، وهل مرجعه إلى نضج تجارب شعراء الحداثة أم ارتقاء ذائقة المتلقي؟ مستعيداً تجربة الثمانينات والرقابة الصارمة حتى من المبدع نفسه، مستشهداً بتجربة محمد علوان حين يكتب في الليل مبدعاً ويعمل في النهار رقيباً، مشيراً إلى أن الشعراء لو قدموا مثل نصوصهم الليلة في الثمانينات لرجموا بالحجارة، مشيداً بالتفاعل مع قصيدة النثر وعرس القصائد بجميع أطيافها. فيما يرى الشاعر محمد الحرز أن قصيدة النثر تواجه مشكلتين، إحداهما المتلقي وطريقة استماعه لهذه القصيدة، والأخرى عدم وجود ناقد متخصص لها، بخلاف العمودي والتفعيلة التي يكثر نقادها المتخصصون، مؤكداً أنه لا يمكن إيجاد حلول لإشكالية قصيدة النثر إلا بحل هاتين الإشكاليتين.