يبدع الكاتب البرتغالي أفونسو كروش في روايته «هيا نشتر شاعراً»، الصادرة حديثاً عن دار مسكيلياني للنشر، بترجمة عن البرتغالية لعبدالجليل العربي حياة تهكمية من الأرقام، مشيّدة بالكامل على حسابات الربح والخسارة، إذ تعيش أسرة ما وعلى نحو تام كاختزال بشري لجوهر السوق. لكن هذا التجسيد للوحشية الاستهلاكية يمكنه من جانب آخر أن يعطي تصوراً ملهماً عما يعنيه هذا الطغيان الرقمي، إذ إنه يمثل الشروط المثالية للسجن، فحياة السجين تتحوّل إلى هوية عقابية من الأرقام بدءاً من اسمه، مروراً بالمساحات التي يتحرك خلالها والعناصر والأشياء التي يستعملها، وليس انتهاءً بعدد الساعات التي يقضيها بحرية مسلوبة. هذا ما أنجزه كروش في روايته بمنح البشر أرقاماً بدلاً من أسمائهم، وتعيين طبائعهم، ومواقفهم من العالم بوصفها صراعاً آلياً للاستفادة والاستغلال، يُقدّر خيره وشره وفقاً للغنائم العددية، بالتالي يستبعد كل ما لا يخدم هذا النوع من العماء القيمي. كأننا أمام سرد يدفعنا إلى التفكير في الوجه المقابل للتحقير الاستهلاكي للفن والخيال، أو ما يبدو أنه الملامح الحقيقية لهذه الفكرة، والمقصود هنا التحقير الذي يمارسه الاستهلاك نفسه تجاه ممارسيه. الضحايا المسجونون داخل حرية مخادعة، تُزيف استعباداً غير محسوس للبشر الذين يتم إجبارهم بسلطة الرفاهية النهمة على نمط قهري موحّد للعيش. (استهلك أبي عشرين غراماً من القهوة عند باب المطبخ، وقبل أن يترك على وجوهنا مليغراماً أو ميلغرامين من اللعاب، أو من القبلات إذا أردتم أن نستعمل عبارة شاعرية، قال بصوت عال: نمو وازدهار. فأجبته بالأسلوب نفسه). في هذه الرواية القصيرة (82 صفحة) تطلب طفلة مراهقة (12 سنة) من والديها الحصول على شاعر، بالضبط مثلما يشتري الآخرون القطط والكلاب ويقتنونها في بيوتهم. ينضم الشاعر إلى قوائم الماديات المستخدمة في حياة هذه الأسرة التي تُقاس أفكار ومشاعر أفرادها بالكميات والفوائد، ولا تشير اللغة المتداولة بينهم سوى إلى التعريفات المباشرة للموجودات، أي تلك التحديدات الجامدة التي يمكن بواسطتها إخضاع قيمة هذه الموجودات لإمكانية النفع الملموس من عدمه. كأن منزل هذه الأسرة ليس أكثر من بورصة صغيرة. (أخي سخيف بدرجة فظيعة. يلبس حذاءً قياس 44، ولديه فقاعات يتراوح عددها بين الثلاثين والأربعين على وجنة كل خد. هذا من دون أن نأخذ في الحسبان الجبين والذقن والأنف. يضع نظارات، ويكاد الحاجبان يختفيان بسبب قلة الشعر، وعندما يتكلم يقول أشياء غريبة من قبيل «عَجّلي» أو «لا تكسري محفظتي» (يعني أنني أصيبه بالملل) أو «رفّعي لي في نسبة الضرائب» يقولها كثيراً عندما لا يفهم ما أقول له حصل ذلك مرات لا تحصي أو عندما يكون مغرماً بفتاة). تتحوّل القصائد التي يقولها الشاعر إلى لغة غريبة، غير مفهومة في وعي أفراد الأسرة، كأن أجسادهم الأشبه بماكينات إحصاء وقياس لا تمتلك الخاصية اللازمة لاستيعاب غرض آخر لا يتكوّن من أرقام، بالضبط مثلما تحاول أن تفتح ملفاً ببرنامج غير ملائم له، فتحصل على رموز مبهمة. لكن تأثير الشعر يتسلل تدريجياً داخل حياة هذه الأسرة، وتبدأ أفكار ومشاعر أبنائها في الانحراف عن تعبيرات (السوق) نحو الاستعارات، وذلك بعد اكتشافات متواصلة لاحتياجهم إليها. (من دون استعارات ليس من الضروري الكلام. أنا أستطيع أن أقول إن النافذة هي النافذة، ولكن كل الناس يعرفون ذلك. بواسطة الشعر أستطيع القول إن النافذة هي قطعة من بحر أو قبّرة تطير. أكاذيب. في أغلب الأحيان هي الحقائق الوحيدة). إن ما يمكن أن تقترحه هذه الرواية للتأمل هو الأشكال الأخرى للاستهلاك التي لا تخضع إلى الاستعباد الرقمي التقليدي. أقصد هنا آليات التلقي والنقد التي تتعامل مع الفن كشيء عديم المنفعة إذا لم يحقق أهدافاً أو تأثيرات محددة، وهو الأمر الذي تدخل في نطاقه على سبيل المثال الرسائل الأخلاقية، والعواطف المتوقعة والمضمونة، والاستفادات المعرفية المباشرة، والأنظمة السردية المتماسكة المنطوية على صور من الحبكة يسهل الإمساك بخيوطها، وكذلك الغايات المثالية، والمعاني الواضحة، والبلاغة ذات الرونق الموسيقي المنضبط. إن حسابات الربح والخسارة لا تتعلق فقط بالغنائم العددية وإنما بالأطر والقوالب المتزمتة التي يُخضع أصحابها الفن إلى شروطها، فإما أن يتوافق وينسجم معها (الربح)، أو يتنافر ويتخاصم مع هذه الشروط (الخسارة). (يقال في بعض الأحيان إن الخيال هو هروب مزعوم من الواقع «وكما قال إليوت، الإنسانية لا تتحمل كثيراً من الواقع»، كما أنه لم يصل إلينا أو أنه آلمنا ولذلك نحتاج إلى قليل من الخيال، كحاجتنا إلى المخدرات والترفيه. إذ يمكننا أن نكون نفعيين أكثر ونكتشف في الخيال نفعية أكبر غابت عن عالم النفس الذي يحدثنا عن الفظائع والمظالم. الخيال ليس هروباً من القبح، ومن الرعب، ومن المظالم الاجتماعية، وإنما هو بالضبط تصميم لبناء بديل، هندسة فرضية لمجتمع أكثر انسجاماً مع انتظاراتنا الإنسانية والأخلاقية). هكذا أنهى أفونسو كروش روايته بما يشبه الخاتمة كتقرير دفاعي عن الخيال، وهو وإن كان يؤكد على أهميته- أي الخيال- في التطور البشري فإنه يضعنا في مواجهة الحدود الصارمة والمغلقة للذات، الأبعد من كونها نتيجة للنفعية الرأسمالية، والتي نجابه من خلفها الحضور المختلف للآخر، المصنّف كوجود عدائي، مهدد، ليس لعدم قابليته للاستغلال في الحياة، وإنما لعدم القدرة على استهلاكه خيالياً أو ضمن الفن نفسه الذي وضعه كروش كجبهة مضادة للهيمنة النفعية.