بقي السؤال عن كيفية إقدام انتحاري على تفجير نفسه في أماكن يصعب تخيل أنها يمكن أن تتوافق مع الحس الإنساني البدائي أو حتى الحس الديني الأولي، واحداً من الأسئلة المحيرة، وفي حين انشغل معظم الباحثين بالتفسير النفسي و «غسل الأدمغة» وفهم الاستغراق والتماهي بالعقائد الدينية التي حُوّرَت بشكل خاص لتلائم الأيديولوجيا الجهادية، ظل مستبعداً أن يقدم انتحاري على تفجير نفسه استجابة لمطلب سياسي يحقق مصالح لآخرين، فمن البداهة أن الانتحاري يعتقد أن ما يقوم به هو «تقرّب إلى الله» وليس تقرباً من الناس، فالغاية الأساسية التي يسعى إليها هي اختصار الطريق إلى «الجنة» وتجنب الحساب. لكن هذا التفسير المستبعد بالذات والمستند إلى تلك البداهة جدير بإعادة التفكير، فمن جهة علينا الإقرار بأن الاستعداد للانتحار للتنكيل ب «العدو» ناتج من مركب نفسي وعقائدي، وهذا المركب ذاته هو حصيلة سياق سياسي واجتماعي محدد، ولكن هذا المركب يمكن أن يفسر مسار الجهادي السلفي الذي يقطعه من أن يكون إنساناً محتفياً بالحياة ويرغب بها إلى إنسان يتقبل الموت وربما يرغب به، إلا أنه لا يقول شيئاً عن الخطوة التالية، أي عن كيفية اختيار الهدف وكيف يحدد الجهادي السلفي هدفه؟ لفهم ذلك دعونا نرجع إلى آليات عمل الانتحاريين في تنظيمات السلفية الجهادية. ثمة في تنظيمات السلفية الجهادية (القاعدية والداعشية) سرية أو كتيبة للانتحاريين تسمى عادة «سرية أو كتيبة الاستشهاديين»، تضم هذه الكتيبة الجهاديين السلفيين الراغبين بالقيام بعمليات «استشهادية»، وتنتهي الخيارات الفردية للجهاديين الانتحاريين تقريباً عند تسجيل أنفسهم في «قوائم الاستشهاديين» في مكتب أو «ديوان الاستشهاديين»، وفي ملء الاستمارات التي قد يكتب الانتحاري فيها أيضاً طلبات خاصة به، إن كان يريد شيئاً محدداً يتعلق بتنفيذ العملية الانتحارية أو شخصياً يخص عائلته بما يساوي تماماً لحظات الوصية قبل الإعدام؛ إذ تظهر طلبات تسجيل الانتحاريين في الوثائق التي عثر عليها في أحد مقار «داعش» في سورية عام 2015، طلبات من نوع التعجيل بتكليف الانتحاري عملية في أقرب وقت ممكن بسبب الآلام التي يعانيها مثلاً نتيجة الإصابة في الرأس بشظايا قنبلة في إحدى المعارك، وتظهر طلبات أخرى إبلاغ أفراد معينين في العائلة بعد العملية أو التصرف بتركته المالية التي عادة ما تكون شديدة التواضع. الشيء الأساسي والمهم هنا أن الانتحاري ليس هو من يحدد هدفه، من يحدد الهدف وزمانه ومكانه هو «مكتب الاستشهاديين» الذي يرتبط بالقيادة (لا يوجد فصل بين السياسي والعسكري في تنظمات الجهادية في مستوى القيادة العليا)، وهي من تحدد العملية الانتحارية بناء على حاجتها. ولأن الانتحاري عندما يسجل في «مكتب الاستشهاديين» فهو يقدم على ذلك بقناعة تامة بأن القيادة الجهادية طهرانية وهي أدرى منه بتحقيق المصلحة الخاصة بالمؤمنين، وهي ورعة وتقية كفاية ليسلم لها ويطيع أوامرها، فلا يعود مرة أخرى للسؤال ما إذا كان طلب القيادة منه للقيام بعملية انتحارية هو صحيح شرعا أو لا طالما هنالك «شرعيون» هم المسؤولون عن ذلك. وينشغل الانتحاري طيلة الفترة بين التسجيل والانتحار بتحضير ذاته نفسياً للعملية مستعيناً بالعقائد وتفسيراتها الخاصة بالتنظيم. وعادة ما يُسأل الجهادي قبل تنفيذ العملية الانتحارية ما إذا كان متأكداً ومستعداً لتنفيذ العملية لضمان أن يتم تنفيذها على نحو ما تريده القيادة بالضبط كما توضح العديد من الروايات لمنشقين عن هذه التنظيمات، وإذا ما أظهر تردداً فإنه يتم اللجوء إلى الاسم التالي في القائمة، حتى يتم التيقن بأن الانتحاري مضمون في تنفيذ العملية. يحدد المكتب الزمان والمكان والتجهيزات والتسهيلات اللازمة ويطلب من الانتحاري التنفيذ، وقلما يساعد الانتحاري في تحديد أهدافه، وهكذا بمأسسة العملية الاستشهادية ضمن مكاتب ودواوين متخصصة يتحول الجهادي الانتحاري إلى مجرد قذيفة يمكن للتنظيم إطلاقها في أي اتجاه وفي أي وقت شاء. السؤال التالي هنا، من يحدد الهدف بالضبط؟ في الواقع أن استعمال الانتحاريين هو شكل من أشكال استعمال الأسلحة الثقيلة، فقيادة التنظيم تعمل دائماً على زيادة الأسماء في القائمة التي لا يوجد عادة فيها أي قيادي من الدرجة المتوسطة فما فوق، ولا تستعملها إلا عندما تريد تحقيق أهداف عسكرية أو أهداف سياسية ذات قيمة خاصة. وما دامت القيادة العليا للتنظيم هي من تحدد سياسة التنظيم، وهي وحدها تحتكر توجيه السياسات وتنفيذها، بما في ذلك التحالفات التي تهدف إلى تحقيق مكاسب تكتيكية ووقتية للتنظيم، فإن استعمال سلاح الانتحاريين يصبح خاضعاً لمتطلبات السياسة والمصالح التي تقررها وتسعى إليها قيادة التنظيم. يمثل هذا التطور في الجهادية السلفية تحدياً صعباً في مواجهة الإرهاب، فمن جهة الجهود المنصبة على تفنيد الشرعية الدينية للانتحار والعمل على تفكيك الترسانة الفقهية للجهادية السلفية، قد يخفف من التوجه نحو مكاتب الانتحاريين ولكن هذا لا يقضي على ما كان يعتقد أنها مجرد ظاهرة، لكنها لم تعد كذلك بعد أن أصبحت مؤسسة، ومن الأفضل في هذا الإطار دعم هذه الجهود المتعلقة بالجدل الديني بالتركيز الإعلامي على الضحايا والفظائع التي يخلفها الانتحاريون وعلى تفاصيل حياة هؤلاء الضحايا وعائلاتهم بدل التركيز على أرقام الضحايا وجنسياتهم وحسب، لأن التركيز من هذا النوع قد يشكل حافزاً ويجذب مزيداً من المتطوعين، كما حصل في التفجيرات الانتحارية في أوروبا، وكلما كبر رقم الضحايا وجنسياتهم سيكون ذلك بمثابة تحقيق التنكيل المطلوب ب «العدو» المفترض. كذلك من الضروري التركيز على سلوك قيادات التنظيم السياسي والديني والاجتماعي أيضاً، وإضعاف الثقة بهم بناء على معلومات حقيقة وليس بناء على معلومات مزيفة، لأن من شأن المعلومات المزيفة أن تؤدي إلى نتائج عكسية، والاستفادة في ذلك من الشهادات التي يدلي بها المنشقون، واستثمارهم إعلامياً في شكل فعال لمواجهة الظاهرة. لسوء الحظ إن إنهاء استعمال هذا السلاح الثقيل لن يكون ممكناً من دون القضاء على هذه التنظيمات في شكل كامل، فهم جزء من مؤسسة وليسوا مجرد ظاهرة، وستكون جميع الجهود ما عدا ذلك محدودة التأثير، والشيء الذي لا يمكن إغفاله هو أن المنظور الأمني لمثل هذه التنظيمات لن يؤدي إلا إلى استفحالها، لأن جذر المسألة برمتها هو سياسي، وما لم يتم إحداث تغييرات سياسية حقيقية وعميقة على مستوى الأنظمة السياسية فستظل هذه التنظيمات موجودة ومتكاثرة ولن يكون ممكناً القضاء عليها. * كاتب سوري.