مع العد التنازلي لاستفتاء تقرير المصير، بدأ كل من طرفي اتفاقية السلام/ الصراع في السودان، الضغط على الآخر لتقديم التنازلات المطلوبة في اللحظات الأخيرة التي توشك على النفاد من دون التوصل إلى حل في شأن القضايا العالقة. ويبدو أنه سيكون هناك تأجيل لحل بعض هذه القضايا إلى ما بعد الاستفتاء، الذي تراه حكومة الجنوب، ومن خلفها المجتمع الدولي، موعداً مقدساً لا ينبغي تأجيله. وما بين المطالبة بتأجيل الاستفتاء حتى حل القضايا العالقة والتوجه الى تأجيل حل بعض القضايا المتعسر حلّها الآن مثل أبيي وترسيم الحدود وغيرهما إلى ما بعد الاستفتاء يثور الجدل حول ما إذا كان الاستفتاء غاية في حد ذاته أم وسيلة لإقرار السلام وتسوية المشاكل. وبينما كانت الحركة الشعبية تتهم المؤتمر الوطني بدعم معارضيها وتسليحهم وإيوائهم من السياسيين والميليشيات المسلحة في الجنوب بهدف إثارة القلاقل، عمدت الحركة إلى محاولة رأب الصدع والخلافات الجنوبية عبر مؤتمر الحوار الجنوبي الذي عقد في جوبا قبل أسابيع بدعوة من رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت، والذي تم توحيد الرأي الجنوبي حول ضرورة عقد الاستفتاء في موعده، كما تم الاتفاق على إجراءات في الجنوب بعد الاستفتاء، من بينها تشكيل حكومة تحالف وطني عريضة تُمثّل فيها الأحزاب كافة، تمهيداً لانتخابات تُجرى بعد عامين. ومثلما يتهم المؤتمر الوطني الحركة الشعبية باستخدام حركات دارفور المسلحة كورقة ضغط عليه، وقد تصاعدت هذه الاتهامات من المؤتمر الوطني أخيراً، في ظل حراك دارفوري مكثف نحو جنوب السودان في أجواء يسودها ركود العملية السلمية التي تتم في شأن دارفور في الدوحة برعاية دولية أفريقية مشتركة، وذلك بعد انسحاب حركة العدل والمساواة كبرى حركات التمرد في الإقليم من التفاوض، واستمرار رفض رئيس حركة تحرير السودان عبدالواحد محمد نور المشاركة فيها، بينما ظلت الخرطوم تفاوض في الدوحة حركة التحرير والعدالة التي لم تتوصل معها إلى اتفاق حتى الآن، وعلى رغم محاولات الوسطاء إعادة حركة العدل والمساواة إلى التفاوض مرة أخرى، إلا أن الحركة طرحت شروطاً لإصلاح المفاوضات، من بينها عدم تعدد مسارات التفاوض وإشراك مصر وليبيا وأريتريا، وعدم التقيد بالسقف الزمني الذي تريده الحكومة وعدم تحيز الوساطة لها، وحرية الحركة لقياداتها. والجدير ذكره أن زعيمها خليل إبراهيم يقيم في ليبيا الآن بعدما مزقت تشاد التي كانت تتقارب مع السودان جواز سفره وأوراقه الثبوتية في مطار إنجمينا. وقد ترفض الخرطوم هذه الشروط، هي التي تريد حلاً سريعاً لهذه القضية قبل التاسع من كانون الثاني (يناير) المقبل موعد استفتاء تقرير مصير جنوب السودان. وقد أصبحت جوبا الأيام الماضية قبلة للحركات المتمردة في دارفور على اختلاف فصائلها وتوجهاتها وقياداتها، وتحدثت الأنباء عن لقاءات واجتماعات بين ميني أركو ميناوي وعبدالواحد محمد نور وأبو القاسم إمام، وميناوي هو قائد حركة تحرير السودان الذي وقّع اتفاق أبوجا للسلام مع الخرطوم عام 2006، وأصبح بموجبه رئيساً للسلطة الانتقالية في دارفور وكبير مساعدي الرئيس السوداني، وبعد الانتخابات الأخيرة لم يعد مساعداً للرئيس، وكان كثير الشكوى من أن الخرطوم لم تنفذ من الاتفاقية التي وقعتها معه سوى 15 في المئة فقط، وقد ذهب من قبل غاضباً إلى دارفور، وكان يعود إلى الخرطوم بعد أن يزوره نائب الرئيس علي عثمان طه ويقنعه بالعودة، أما هذه المرة فقد رفض لقاء طه عندما ذهب إلى جوبا وألمح إلى إمكانية العودة إلى التمرد ثانية. أما عبدالواحد نور قائد حركة تحرير السودان الثانية الذي افترق عن رفيقه ميناوي بعد توقيع الأخير اتفاق أبوجا، فقد ظل (عبدالواحد) متشبثاً بمواقفه الرافضة للمشاركة في التسويات السلمية الجارية، وأما أبو القاسم إمام فهو أحد قادة حركة التحرير، وقد توصل أيضاً لاتفاق مع الحكومة وأصبح بموجبه والياً على غرب دارفور، قبل أن يُبعد من منصبه في تغييرات ما بعد الانتخابات الأخيرة. اتهمت الخرطوم الحركة الشعبية وحكومة الجنوب أيضاً بتقديم الدعم لقوات حركة العدل والمساواة عبر حدود الجنوب مع ولاية جنوب دارفور. وربما رأت أن هذا الدعم هو الذي مكن الحركة من التقدم بعملياتها في الأسابيع الأخيرة إلى مناطق في كردفان وجنوب دارفور، وتحدثت الخرطوم أيضاً عن دعم وتنسيق مع أوغندا جارتها اللدود في هذا الشأن، بينما تتهم الحركات المتمردة في دارفور الحكومة بأنها هي التي تصعد القتال في دارفور، وأنها تريد عبر خطتها التي أعلنت عنها في دارفور إفراغ معسكرات النازحين وإنهاء القضية في أي شكل باتفاق يتم على عجل مع حركة التحرير والعدالة قبل موعد استفتاء الجنوب. الخطير في أمر أوراق الضغط المتبادلة التي تلوح بها الخرطوموجوبا أنها تتجاوز المرحلة الراهنة، وتجعل مستقبل الوضع في السودان مفتوحاً على احتمالات مدمرة، وهو ما يعني أن الوضع لن يستقر بمجرد انفصال الجنوب، وإنما يعني وجود بؤر توتر مستمرة بين الشمال والجنوب، قد تشمل طول خط الحدود الذي يقارب ألفي كيلومتر، وقد يعني ما هو أكبر وأخطر من ذلك، وهو أن تقرير المصير في جنوب السودان لن يكون آخر تقرير مصير في السودان أو نهاية للتقسيم والتجزئة، بل بدايته، ففضلاً عن أبيي والحدود المفتوحة، هناك دارفور التي يتصاعد فيها الآن الحديث عن العمل المسلح لإسقاط النظام بديلاً للحل السلمي، كما يتصاعد تدريجاً الحديث عن أن تقرير المصير قد يكون مطلباً لأبنائها إن لم يتم الإسراع في حل سلمي شامل وعادل، ليست دارفور وحدها بل هناك أيضاً منطقتا جبال النوبة والنيل الأزرق اللتان من المقرر أن يتم بهما ما يعرف باسم المشورة الشعبية، التي يختلف حتى الآن في تعريفها كل من الخرطوموجوبا، وتقول بعض القيادات الجنوبية إنهما ستلحقان عاجلاً أم آجلاً الجنوب، باعتبارهما جزءاً من نضاله على حد تعبيرهم. وقد أعلنت تنظيمات لأبناء جبال النوبة أنها في صدد تنظيم مسيرة كبرى فى الولاياتالمتحدة في 16 من الشهر المقبل للمطالبة بتقرير المصير. والأخطر هو هذه الاتهامات التي توجهها الحركة الشعبية الى الجيش الحكومي بمهاجمة مناطق تابعة لها، الأمر الذي تنفيه الخرطوم ويخشى من عواقب تصاعده، وأيضاً الخلاف المتصاعد حول عملية التسجيل للاستفتاء وتلويح المؤتمر الوطني بعدم قبول النتائج المترتبة عليه. * كاتبة مصرية