شكّلت العائلة، وتحديداً «حجمها»، محور جدل حام خلال الأيام الماضية في بريطانيا. وتركّز هذا الجدل على سياسة خفض النفقات التي لجأت إليها الحكومة وطاولت الإجراء القاضي بتوقف الدولة عن دفع إعانات مالية لأطفال العائلات الثرية أو المتوسطة الحال (20 جنيهاً في الأسبوع للطفل الأول و13 جنيهاً عن كل طفل آخر منذ الولادة وحتى عمر 18 سنة). ثار هذا الجدل بعدما عبّر واحد من هؤلاء السياسيين عمّا يجول فعلاً في خاطره. قال: «الفقراء يميلون إلى الإنجاب أكثر من الأثرياء بفعل سياسات الحكومة الجديدة التي تُشجّعهم أكثر على مزيد من الإنجاب، لأنه كلما ازداد عدد أفراد عائلتهم كلما ازداد دخلها المتأتي من الإعانات المختلفة التي توفرها الدولة لمحدودي الدخل». صاحب الكلام اللورد هاوارد فلايت، المليونير المعيّن حديثاً عضواً في مجلس اللوردات عن حزب المحافظين الحاكم، والذي أضاف: «سيكون لدينا نظام لا تتشجع فيه الطبقة المتوسطة على الإنجاب لأن ذلك سيكون مكلفاً لها. ولكن بالنسبة إلى أولئك الذين يعيشون على الإعانات (التي تقدمها الدولة)، فإن هناك سبباً يشجعهم على الإنجاب أكثر، وهذا ليس أمراً عاقلاً». ما كاد تعليق فلايت يُنشر حتى علت الأصوات المنددة به، وعمد حزب العمال المعارض الذي يُعتبر ممثلاً لأبناء الطبقات الفقيرة، إلى وصف تصريحات فلايت بال «معيبة»، معتبراً أنها تعبّر صراحة عمّا يفكّر فيه لورد حزب المحافظين. وامتد الانتقاد إلى الحكومة نفسها، وحتى الشريك الأصغر فيها، حزب العمال الديموقراطيين، رأى أن كلام فلايت «مثير للاستفزاز وغير مقبول، وليس ملائماً للقرن الحادي والعشرين»، ما دفع برئيس الحكومة وزعيم المحافظين ديفيد كاميرون إلى الإشارة إلى أنه يتوقع منه «الاعتذار». فلايت بدوره حاول التخفيف من وطأة تصريحاته من خلال القول إن هذا الجزء من أقواله في شأن «إنجاب الفقراء» تم إيراده «خارج السياق» الذي ورد فيه، قبل أن يضطر إلى «الاعتذار من دون تحفّظ»، بعد تأكيد كاميرون أن «لا شيء مقبولاً غير الاعتذار». تصريحات فلايت انتهت مفاعيلها بالظاهر مع اعتذاره، لكن الجدل كشف في الحقيقة جزءاً من «المستور» الذي يخشى بعض السياسيين التحدث عنه علناً وهو رأيهم الذي ينطلق من مفهوم «طبقي» ما زال يتحكم حتى اليوم في كثير من مجالات الحياة في المجتمع البريطاني. وحاول حزب العمال الحد من الفوارق بين «الطبقات» خلال سنوات حكمه التي استمرت من 1997 وحتى ربيع العام الحالي. ويعتبر مراقبون أن مُشكلة المحافظين اليوم أن بعض قادتهم ما زال ينظر إلى المجتمع البريطاني على الأساس الذي نشأوا عليه. وكان لافتاً، في هذا الإطار، أن الخطوة الأولى التي باشر بها حزب المحافظين بعد تسلمه السلطة إثر فوزه في انتخابات الربيع الماضي، تمثّلت في قرار لوزارة التعليم يفتح المجال أمام المدارس الرسمية «الناجحة» كي تتحوّل إلى أكاديميات خاصة تدير شؤونها بنفسها خارج سلطة المجلس البلدي (يبقى تمويلها من الدولة ولكن إدارتها خاصة)، وهي خطوة تُعاكس تماماً ما قام به العماليون خلال حكمهم وهو السماح للمدارس الرسمية «الفاشلة» فقط بأن تتحول إلى أكاديميات يموّلها أثرياء أو مؤسسات خيرية، في محاولة لتحسين أداء بقية المدارس الرسمية. ويقول المحافظون إن سياستهم هذه ستسمح للمدارس الناجحة بأن تتفوق أكثر عندما «تتحرر» من سلطة الدولة، وهو ما يعتبره الآخرون انه سيعني أن المدارس الناجحة ستتحوّل إلى خاصة لا يمكن لأبناء الطبقات الشعبية الالتحاق بها وسيتراجع أكثر أداء المدارس الرسمية «الفاشلة» التي لا يريد أحد أن يرسل أبناءه إليها... سوى أولئك الذين لا مجال آخر أمامهم غيرها. والمقصود هنا تحديداً أبناء الإنكليز الأكثر فقراً الذين يعيشون على نفقة الدولة أو أبناء المهاجرين الذين يعيشون بدورهم على نفقة الدولة. والإجراءات التي أعلنتها الحكومة في خصوص سحب نظام الإعانة المالية عن أبناء ميسوري الحال (يتقاضون ما يزيد على 43 ألف جنيه سنوياً)، لا يشمل أبناء الفقراء، وهؤلاء هم إما من الطبقة الشعبية الإنكليزية المدقعة الفقر أو من أبناء من يوصفون ب «المهاجرين المسلمين» الذين «يغزون» بريطانيا، بحسب ما يقول ممثلو التيارات اليمينية المتطرفة. وفي الحقيقة، لا تقتصر الانتقادات في بريطانيا على أبناء العائلات المسلمة التي تتميز بارتفاع عدد أفرادها الذين يعيشون في كثير من الأحيان على نفقة الدولة من خلال أموال دافعي الضرائب، لكنه ينطبق بالمقدار نفسه على العائلات الإنكليزية الفقيرة. مارغريت اريسثي قد تكون واحدة من هؤلاء. فهذه الأم السوداء غير المتزوجة ذات الأربعين سنة والتي لديها ثمانية أولاد تتراوح أعماهم بين 5 سنوات و21 سنة، تسكن حالياً في «نزل» على نفقة المجلس البلدي في دائرة نيوهام في لندن. لم تتمكن البلدية حتى الآن من تأمين مسكن ثابت لها (بيت من خمس غرف على الأقل)، الأمر الذي يعني أنها ما زالت تتنقل هي وعائلتها من نزل إلى آخر (عبر خمس بلديات مختلفة في لندن) منذ عشر سنوات ونصف السنة. وتقول بلدية نيوهام إن على لوائحها قرابة 30 ألف عائلة تنتظر إيجاد مسكن لها على نفقة الدولة، وتوضح أن حالة مارغريت ليست فريدة. العائلات التي تحتاج إلى مسكن من خمس غرف عليها أن تنتظر فترة قد تدوم 16 سنة قبل تأمينه لها، بحسب ما قالت البلدية. ومعروف أن بريطانيا أعلنت أخيراً خطة تقشف قيمتها 81 بليون جنيه إسترليني على مدى أربع سنوات. وجادل كاميرون، عندما أعلن خطته هذه، بأن الخفض «عادل» لكونه يتطلب من الذين «يملكون كتفاً عريضاً» (الميسوري الحال) أن يتحملوا أكثر من غيرهم من أبناء المجتمع (يفقد الميسورو الحال قرابة ألفي جنيه سنوياً بعد حرمانهم من إعانة الأطفال، في حال كان لديهم طفلان فقط). وزاد إلغاء معونة الأطفال من التذمر الذي تواجهه الحكومة حتى من الأوساط التي ساعدتها في الوصول إلى السلطة في أيار (مايو) الماضي. وقد تجلّى هذا التذمّر، مثلاً، في المواقف التي صدرت عقب الإعلان عن زيادة تكلفة الدراسة في الجامعات من ثلاثة آلاف جنيه سنوياً إلى تسعة آلاف جنيه. وتقضي هذه السياسة بأن تدفع الدولة للجامعات تسعة آلاف جنيه لقاء كل طالب يتابع تحصيلاً جامعياً، على أن يكون هذا المبلغ بمثابة «دين» يتوجب على الطالب تسديده بعد تخرجه وبدئه بالعمل، مع إضافة فائدة بسيطة إليه.