أول ما يدهش في الفيلم هذه الابتسامة الدائمة على الوجوه، وجوه مبتسمة لعراقيين صغاراً وكباراً، بعيدة عما تبثه نشرات الأخبار من صور، صور كبقية الصور، جزئية بيد أنها في الكثير من الأحيان تحتل موقعاً أكبر مما هي عليه في الواقع. في «وطني، العراق العام صفر» لعباس فاضل، العراق كما لم نره من قبل. في الجزء الأول من الفيلم قبل الغزو الأميركي (ساعتان و40 دقيقة)، نتقاسم لحظات حميمية من يوميات عائلة عراقية، لحظات الفرح والمرح والأمل والقلق... عائلة تتابع حياتها كأي عائلة في أي مكان إنما مع هذا الجو من الانتظار المتوتر لحرب مقبلة. في الجزء الثاني (ساعتان و50 دقيقة) يعود فاضل إلى العراق لتصويره بعد سقوط صدام والغزو الأميركي ليلتقط خارج الجدران بدايات تحول بلد خارج لتوه من الديكتاتورية ليقع تحت وطء الاحتلال، بلد يجتاحه العنف أكثر فأكثر. أبعد من أن يكون مجرد فيلم وثائقي، «وطني، العراق العام صفر» فيلم ينضح بالمشاعر والتقاط حساس قوي ومؤثر لبلد وشعب في فترة عصيبة من تاريخه. هنا حوار مع صاحبه المخرج العراقي المقيم في فرنسا عباس فاضل. كيف بدأت علاقتك مع السينما في العراق ولم اخترت فرنسا لدراسة الفن السابع؟ - كنت سمعت «بالموجة الجديدة» مجرد سماع حين حدثني صديق عن فيلم لتروفو يعرض في بغداد. ذهبت من الحلّة حيث أقيم، إلى العاصمة خصيصاً كي أشاهد «جول وجيم». لم يكن الفيلم مترجماً لكنني أعجبت بكل شيء فيه لا سيما اللغة والبطلة (جان مورو)، وقررت دراسة السينما من حينها على رغم أني كنت في الخامسة عشرة من العمر. ثم سنحت لي فرصة مشاهدة «الاحتقار» لغودار مع صديق يهوى السينما، كان هذا طبعاً من أجل بريجيت باردو وليس من أجل غودار! وجدت الفيلم غريباً لا يشبه كل ما سبق ورأيت، وأثار ذلك اهتمامي فبدأت بالبحث، وبعضه كان في مجلات مصرية، حتى اكتشفت أن المخرج هو المؤلف الحقيقي للفيلم، وعندها تأكدت رغبتي بدراسة السينما. قررت الذهاب لفرنسا لهذا الغرض لعدم توافر ذلك في بلدي، فوصلتها بداية الثمانينات ثم استقررت فيها لأسباب عائلية كما بسبب الأوضاع في العراق. فيلمك هذا لفت الأنظار إليك ونال استحساناً كبيراً لدى النقاد والجمهور ليس فقط في فرنسا بل في العديد من دول العالم. هو الفيلم الذي شهرك ولكنه ليس الأول. - قبل هذا كان التلفزيون الفرنسي طلب مني تحقيق فيلم وثائقي عن انطباعاتي حين زرت العراق بداية الألفين. قبلت العرض على رغم عدم حبي للظهور في الأفلام وصورت «عودة إلى بابل»، ثمّ حققت «نحن العراقيون» (2004) الذي كان بأسلوبه تكملة للأول لكني لم أظهر فيه. في ما بعد أخرجت فيلمي الروائي «فجر العالم» - من بطولة هيام عباس وحفصية حرزي - وتدور أحداثه في العراق. الفيلم عن المعيدان (جمع معيدي) وهم عرب الأهوار في العراق الذين يعانون الفقر والاضطهاد. في فيلمك نكتشف العراق كما لم نره من قبل. هنا الإحساس بالخراب أكثر حدة. كم مرة رأينا بعض هذه المشاهد؟ لكنها هنا بارتباطها بأشخاص بتنا نعرفهم ونشاركهم بعض تفاصيل حياتهم، باتت أشد تأثيراً علينا. كيف بدأت الفكرة لديك؟ - كنت أعيش في فرنسا وكان الحديث عن الحرب على العراق على كل لسان، كنا واثقين تماماً من وقوعها في أية لحظة وكان العالم كله تقريباً يقف ضدها. خلال حربي العراق- إيران والخليج، كنت في فرنسا وخشيت هذه المرة إن حصلت الحرب أن أنقطع عن العراق لأشهر طويلة. كنت أعتبر ما سيحدث كارثياً، فماذا لو كانت هناك بالفعل أسلحة دمار شامل واستعملها صدام؟ كيف سيكون رد فعل الأميركان؟ كنت على ثقة بأنهم لن يترددوا بمحو العراق من الخريطة، تصور كابوسي! وقعت في حيرة قررت بعدها الرجوع إلى هناك والبقاء مع أهلي في هذه الفترة. وفي الوقت نفسه جاءتني فكرة تحقيق فيلم يرصد العيش اليومي للعراقيين تحت وقع الانتظار. رغبت بتصوير كل ما قد يزول من أشياء بسيطة في الحياة اليومية كمشاهدة التلفزيون واحتساء القهوة والدراسة والعمل وتأمين مستلزمات البيت... أحسست حينها أن كل ذلك تفاصيل ستختفي. باشرت التصوير في شباط (فبراير) 2002 واستمررت حتى منتصف آذار (مارس) 2003 حيث اضطررت للعودة إلى فرنسا ولم تكن الحرب قد وقعت بعد. ثم، ثلاثة أيام بعد مغادرتي للعراق أعلنت الحرب! بقيت الشرائط في العلب أكثر من عشر سنوات، ما الذي دعاك للرجوع إليها بعد كل هذا الزمن؟ - بعد مقتل حيدر (ابن أخت المخرج الذي يظهر كثيراً في الفيلم)، كان من الصعب علي بل من المستحيل رؤية كل هذه الصور من جديد... بقيت مركونة على جنب إلى أن جاءتني فكرة تصوير فيلم جديد في العراق بمناسبة مرور عشر سنوات على سقوط بغداد، فتذكرتها هذه المئة وعشرين ساعة المصورة في العراق! أعدت مشاهدتها وتبينت مدى غناها واحتوائها على لحظات تاريخية تبين كيف عاش الشعب الحرب وكيف تمّ الانتقال من الديكتاتورية إلى الفوضى، وجدتها لحظات تعبر عن وجهة نظر الناس العاديين والبسطاء من دون أن تهمل تماماً بعض المسؤولين من «الكبار». لكنها كانت على الأخص يوميات حياة عائلة عراقية. هكذا، أجبرت نفسي على رؤية الفيلم من جديد، كان هذا قاسياً وكنت في غاية التأثر كل مرة كانت تعبر فيها أمامي صور أعزاء غابوا، كانت فترة العمل في توليف الشريط مؤلمة جداً. وثيقة اجتماعية غير التعريف بالعراق والعراقيين، تكمن أهمية الفيلم في كونه وثيقة اجتماعية عن تلك الفترة من تاريخ العراق. - حين بدأت التصوير كان هدفي التعريف بالعراقيين حيث كانت صورهم كجثث ملقاة في كل مكان هي الوحيدة المنتشرة. أردت أن أري أن العراقيين هم أناس يحبون ويتزوجون ويجوعون... رغبت بإعطاء وجه للعراقيين، أن أعطي صورة عنهم غير تلك التي يتخيلها الآخرون. أنتِ نفسك، ونحن جيران (سورية والعراق)، تفاجأت بصورتهم في الفيلم كما قلت لي قبل بدء الحوار! فكيف بالغربيين؟ هم لا يدرون شيئاً عن العراقيين وعن حياتهم، والعراق بالنسبة إليهم مساوي لصدام وللنفط... العراق هو بشر وحضارة قديمة قبل كل شيء. كل هذا دفعني لتعريف العالم بالناس هناك وعرض هذا الأرشيف عليهم. بعد كل عرض لفيلمي في شتى أنحاء العالم كان المشاهدون يعبرون عن دهشتهم بهذه الصورة للعراقيين، وفيما كانت صورة التطرف والإرهاب تغلب على مخيلتهم من قبل اكتشفوا أناساً يشبهونهم وعائلة لها نفس همومهم. تغيرت الأوضاع منذ ذلك الحين في العراق وتبدلت المعايير. ما أكثر ما لحظته من تغيير بين اليوم وبين الفترة التي غطاها الفيلم؟ - الطائفية! لقد بدأت تلك مع الاحتلال الأميركي. كان العراق بالنسبة للأميركيين مجرد أديان وطوائف. كان هذا أخطر تغيير، وهو حصل كذلك بسبب انتشار الفساد والأحزاب الطائفية. كيف كنت تصوّر؟ لاحظنا مثلاً أنك لم تصور الأميركيين كثيراً في الجزء الثاني الذي صوّر معظمه خارج الجدران. وبدا بعض المشاهد وكأنه صور في الخفاء. - ثمة جزءان. واحد صُوّر زمن صدام قبل الحرب مباشرة وآنذاك لم يكن ممكناً ولا مسموحاً حتى التقاط صورة. حين دخلت العراق كان ذلك بجواز سفر فرنسي ولم أطلب تصريحاً للتصوير ولو كانوا اكتشفوا ما أفعل حينها لكنت اتهمت بالتجسس، لهذا لم أكن أصور في الخارج بل ركزت التصوير على عائلة أختي داخل البيت. وأحياناً كي أحمي نفسي كنت أخرج برفقة الممثل سامي قفطان وهو فنان عراقي كبير، وإن حدث وأوقفتنا الشرطة كنا ندّعي أنني أصور فيلماً عنه! أما في الجزء الثاني فلم نكن نخشى خطر تهمة التجسس أو الرقابة بل خطر الموت! لقد كان ممكناً جداً أن يطلق علينا الأميركيون رصاصهم، كما كانت تلك فترة استهدف فيها الصحافيون. لم تطلب رخصة إذاً حتى في الجزء الثاني من الفيلم. - أية رخصة؟! لقد كانت هناك حرية كاملة بالقتل والسرقة فكيف بالتصوير؟! كان التصوير متاحاً ولكن على مسؤولية المصور. الآن اختلف الوضع ويجب أن نطلب رخصة من الميليشيات والشرطة والجيش... كيف تمكنت من الفصل بين عملك كمخرج وكونك فرداً من العائلة؟ بقيت خارج الصورة وحتى صوتك لم نكن نسمعه إلا فيما ندر. كيف كنت توجه القول والفعل؟ هل كنت تحدد مواضيع الحديث؟ بل هل كنت تضع سيناريو أو تخيلاً لما سيحدث؟ بمعنى هل قدت الفيلم أم قادك؟ - قررت من البدء ألا أظهر في الفيلم وأن أكرسه فقط للعراقيين. رغبت بتصويرهم بأسلوب حميمي في عيشهم اليومي بحيث لا يشعرون بوجود الكاميرا، ساعد على هذا كوني واحداً منهم يثقون به. في مشاهد الداخل أردت للمشاهد أن يكون ضيفاً على العائلة وليس متلصصاً. وفي الخارج قمت بكل شيء في الفيلم بمفردي فلم يكن ممكناً أن أصطحب أحداً للمساعدة بالتصوير كي لا نلفت الانتباه. اليوم حين أعيد التفكير ببعض مشاهد الفيلم أدرك بأن بعض المواضيع لم يكن ليطرح لولا وجود الكاميرا. في ما يتعلق بالسيناريو كنت أحياناً أحرّض بعض المواقف والأحاديث، وفي أحيان أخرى كانت ثمة صعوبة في السيطرة على الوضع لا سيما في أماكن لم يكن أحد يأتي صوبها. هناك كان الناس يتجمعون حولنا ويسألون إن كنا من محطتي «الجزيرة» أم «العربية». لكني كمخرج كنت مسيطراً تماماً على الفيلم ومسيرته حتى في المشهد الذي صوّرت فيه الحاجز الأميركي. نعم في المشهد يقترب الجندي الأميركي من سيارتكم وكنت تصور الحاجز وتابعت التصوير! - هذا بلدي أصور فيه ما أريد. هذا حقي ولا شأن لهم بالأمر. لحظة التهديد هل فلت أحد المشاهد من يدك؟ - ثمة مشهد كان فيه نقاش بين تاجر السلاح والصغير حيدر، حين احتد الحوار بينهما سمعت تهديداً من خلفي فتوقفت عن التصوير. صادفتنا بالطبع بعض المواقف الصعبة والخطيرة. مثلاً حين كنت مع أخي وزوج أختي في منطقة مهجورة هي قصور صدام، جاءت سيارة وتوقفت أمامنا واقترب شخص أدركنا من أسلوبه أنه يحمل مسدساً، لم نكن نعرف توجهاته، في ذلك الحين كان قتل الصحافيين يسبب ضجيجاً مرغوباً لمثل هؤلاء في حين لم يكن أحد يكترث لقتل البشر العاديين! مثّلت بطريقة تظهر أن لدي مسدساً أنا الآخر. في الحقيقة لولا الفيلم لما كنت لأخرج وأواجه الخطر على هذا النحو، لكن كانت لدي مهمة ولهذا خاطرت. في الجزء الأول الذي صور معظمه داخل جدران بيت العائلة لم نلمس هذا التوتر لدى الناس، على العكس كانت الأجواء تبدو عادية. - لكن بالفعل كان ثمة توتر لديهم، فوضع العراقيين عامة كان صعباً لسنوات شهدوا فيها حرب الخليج وقبلها الحرب مع إيران ثم الحصار... كلها عوامل زادت من إحساسهم بضيق العيش، لكن الناس كانوا يتمنون حدوث الحرب لسببين، أولهما التخلص من صدام فهذا كان يعني لهم انتهاء الحصار وثانيهما رغبتهم بعودة الحياة الطبيعية. ثمة تضاد في بعض المشاهد بين هؤلاء الأولاد المبتسمين والمتراكضين أمام الكاميرا وأحاديث الكبار الكارثية من نوع «هنا انتهت كل العائلة...»، في إشارة إلى بيت وقع تحت القصف. - في العراق هناك أطفال في كل مكان، هم كالفراشات التي تنجذب للضوء وهو هنا الكاميرا، هذا ما شجعني على إكمال الفيلم. ابتسامات الأطفال وحتى الكبار الذين هم على رغم مشاكلهم وكونهم في أسوأ اللحظات يكملون العيش ويبتسمون. ثمة تعاضد اجتماعي واضح عندنا. هل عرض الفيلم في العراق؟ - الفيلم عرض في كل العالم إلا العراق!! يفتخرون بوجوده ولكنهم لا يدعوني لعرضه هناك ولا ينظمون عروضاً له! أفلامك في ما بعد هل ستكون على شاكلة هذا الفيلم؟ هل ثمة مشروع جديد؟ - في الصيف سأصور فيلماً روائياً طويلاً وأنا الآن بصدد معاينة مواقع التصوير.