كان تدفق العمالة الوافدة على دول الخليج العربي خصوصاً دول مجلس التعاون كالسيل الجارف لتلبية طلبات القطاع الخاص الذي جنى أرباحاً طائلة من وراء ترسية مشاريع القطاع العام عليه، واستقدم القائمون على ذلك القطاع عمالة هي في معظمها عمالة آسيوية أجورها منخفضة كثيراً مقارنة بنظيرتها من الدول العربية. وفي بداية مراحل استقدام تلك العمالة لم تبرز على السطح معضلات خصوصاً فيما يتعلق بعدالة تخصيص العمالة لمستحقيها من شركات القطاع الخاص والأفراد، فمثلاً في السعودية كانت إدارة الاستقدام تتبع لوزارة الداخلية بجهاز إداري متواضع، لكنها كانت فاعلة ويبدو أن تبعيتها لوزارة الداخلية جعلت الرقابة عليها فاعلة فكان أداؤها على رغم تواضع حجم جهازها الإداري مقبولاً لدى القطاعين العام والخاص والأفراد. ومع إدخال تنظيم إداري جديد في السعودية انتقلت تلك الاختصاصات المتعلقة باستقدام العمالة الوافدة إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي أصبحت في ما بعد وزارتين: وزارة العمل ووزارة الشؤون الاجتماعية، والدول الأخرى أعضاء مجلس التعاون الخليجي لها هي الأخرى تنظيماتها فيما يتعلق بالعمالة الوافدة. تلك القوانين الحاكمة لهذه العمالة خرج من رحمها اليوم أن دول المجلس تستضيف أكثر من 15 مليوناً من الوافدين، وهذا الرقم مرشح طبقاً لبعض المصادر أن يقفز الى 20 مليوناً بحلول عام 2015. في المقابل فإن بعض المصادر يذهب إلى القول إن سوق العمل في دول مجلس التعاون تستعد لاستقبال 7 ملايين عامل من أبناء الخليج خلال السنوات ال 10 القادمة، وإذا كانت تلك السوق تنتظر أن ينضم إليها 5 ملايين من العمالة الوافدة، فكيف لهذه السوق (الضيقة) أن تستوعب 12 مليوناً من أهل الأوطان والعمالة الوافدة؟ لكن الأكيد أن سوق العمل ستستقبل أفواجاً أخرى من العمالة الوافدة قد تقل أو تزيد عن 5 ملايين وسط الفوضى العارمة التي تجتاح سوق العمل التي أصبحت ضحية فساد منظم لبيع التأشيرات جهاراً نهاراً. أما العمالة الوطنية فإن الشك كبير في أن تتاح لها 7 ملايين فرصة عمل خلال ال 10 سنوات المقبلة إلا إذا شمّر المسؤولون في دول المجلس عن سواعدهم ووضعوا الخطط والاستراتيجيات بشفافية متناهية في مجال التعليم والتدريب لما تحتاجه سوق العمل لكي تخدم الاقتصادات وخطط التنمية في جميع التخصصات، بحيث تكون تخصصات التعليم العالي وجميع فروع التعليم مطابقة لما تطلبه سوق العمل الذي تسيطر عليه العمالة الوافدة إلى حد كبير. وقولنا هذا تسنده أدلة دامغة تؤكد أن أعداد العمالة الوافدة تزداد يوماً بعد آخر وسط الفساد الذي يشهده إصدار التأشيرات، فالسوق مفتوحة لكل من هب ودب، والتأشيرات تباع في السوق السوداء حتى أزكمت رائحة الفساد فيها الأنوف، والجهات المختصة بإصدار التأشيرات للقطاع الخاص والمواطنين تضع العقبات الواحدة تلو الأخرى حتى ييأس طالب التأشيرة، وليس أمامه سوى سد حاجته من السوق السوداء بالمبلغ المعلوم (ولا من سمع ولا من درى) كما يقولون. وما زاد الطين بلة وجعل الأمر أكثر قتامة أن باب الاستثمار فتح على مصراعيه وتقدم المستثمرون من كل حدب وصوب، من مستثمرين في مطاعم وورش حدادة وسباكة ومتاجر، وأجهزة كهربائية، ومعدات صيانة، ومشغل لتجهيز العرائس، ومكاتب للصيانة والنظافة، ووجبات تسالي خفيفة إلى آخر القائمة. فهل هذا استثمار يضيف الى الاقتصاد الوطني قيمة مضافة؟ بالطبع لا، إنه تغلغل غير محمود في مجالات الاقتصاد الوطني وضياع فرص تجارية حقيقية على المواطنين الذين هم أولى بخيرات أوطانهم. وفتحت لهؤلاء المستثمرين أبواب التأشيرات من دون قيود ودخل بعضهم سوق فساد التأشيرات فباعوا بعضها وأهدوا البعض الآخر لأقاربهم وأحبابهم فأصبح الأمر لا استثمار ولا يحزنون. هذا الوضع المشين لا ينكره حتى الأعشى فهو يسمع ما يدور في المجالس حول هذه السوق المشؤومة، وكم بلغ عدد المواطنين المحتاجين فعلاً الى تأشيرة أو تأشيرات لسد حاجتهم وقد حفيت أقدامهم وضاع وقتهم أمام جهات الاستقدام وعادوا بخفي حنين، وليس أمامهم إلا اللجوء إلى هوامير التأشيرات الذين أصبحوا أصحاب قوة في السوق معروفين بالاسم ولهم سماسرتهم وأعوانهم، وأصبح خطرهم على سوق العمل لا يقل عن خطر هوامير سوق الأسهم الذين بعددهم القليل سيطروا على السوق وأصبح مصير المستثمرين الصغار في سوق الأسهم معلقاً بتوجهاتهم على رغم أن عدد «الغلابة» المستثمرين يزيد على 90 في المئة من حجم السوق. مع بقاء هذه السوق (العفنة) حية ترزق، ومع تضخمها يوماً بعد آخر فإن أرقام العمالة الوافدة وفي شكل خاص الآسيوية ستكسر الحواجز الرقمية الراهنة والتي أوردها مجلس الغرف في دول المجلس وصندوق النقد الدولي وغيرهما من الجهات المهتمة بالإحصائيات السكانية وعدد العمالة، فمثلاً وعلى ذمة صندوق النقد الدولي في إحصاء يعود الى عامي 2006 و2007 وآخر لمجلس الغرف في عام 2008 بلغت نسبة الأجانب في بعض دول المجلس أكثر من 80 في المئة كما في الإمارات، وفي قطر 72 في المئة، الكويت 63 في المئة، السعودية 30 في المئة، عمان والبحرين 26 في المئة من مجموع السكان! وتبرز الإحصائيات وضعاً مخيفاً، حيث يتضح أن العمالة الآسيوية هي المسيطرة على سوق العمل، ففي عُمان بلغت مثلاً أكثر من 92 في المئة من حجم العمالة الوافدة وفي الإمارات كسرت حاجز 87 في المئة وفي البحرين أكثر من 80 في المئة وفي الكويت أكثر من 65 في المئة وفي السعودية حوالى 60 في المئة وفي قطر حوالى 46 في المئة. إنها أرقام يجب الوقوف عندها كثيراً... الوقوف عندها بحكمة وروية وبعد نظر ومنهج علمي يعتمد على التخطيط البعيد المدى من قبل دول المجلس التي فتحت أبوابها مشرعة أمام عاصفة العمالة الوافدة في ظل تواضع القوانين الحاكمة لاستقدامهم! إن الوضع الحالي الذي ينظم وضع العمالة يحتاج إلى حلول جذرية غير تقليدية. إنه أمر مهم أصبح ضرورة وليس ترفاً قبل أن (تقع الفأس بالرأس) كما يقولون لمواجهة مشكلة كبرى كبرت ككرة الثلج وأصبحت قضيتها تستدعي حلاً سريعاً وناجزاً يحافظ على حقوق المواطنين الذين يقع بعضهم ضحية العمالة الوافدة، وعلى الجانب الآخر لحماية حقوق الإنسان بالنسبة الى العمالتين الوطنية والوافدة. وللحديث بقية * رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية [email protected]