كل ما يعرفه سكان شارع شبرا (شمال القاهرة) أن هذا المبنى المتهالك المتساقط هو مقر النقابة الفرعية للمعلمين. على مدار عقود طويلة، وهم يرون شيوخ المعلمين المرضى والذين يحمل بعضهم أبناؤهم بهدف إثبات أنهم على قيد الحياة أمام الموظف المسؤول حتى يتمكن من إنجاز أوراقه الخاصة بصرف المعاش. وطيلة هذه السنوات الطويلة، والجميع يعلم أن الغرض من هذا الكيان هو صرف بضعة جنيهات للمعلمين بعد تقاعدهم وذلك لحين يأذن الله أمراً كان مفعولاً. وفي شارع منصور في حي حلوان (جنوبالقاهرة) يعرف السكان أن المبنى الصغير المجاور لهم تم افتتاحه قبل نحو عام ليكون مقر النقابة الفرعية للمحامين، حيث تجري مشاورات مشروع العلاج، ومناقشات زيادة المعاش، وسجالات قانون المحاماة على أمل زيادة المبالغ التي يتقاضاها المحامون. والمارة وأصحاب المحلات وسكان العمارات في شارع رمسيس في وسط القاهرة يعرفون أن نقابة المهندسين هي المكان الذي يحوي معارض لشقق سكنية بتيسيرات في السداد للسادة المهندسين، ومعارض للسلع المعمرة للسادة أسرهم، وتنويهات عن مشروع الرعاية الأسرية للسادة المهندسين وعائلاتهم. تعريف «النقابة» وعملها والمشاركة في انتخاباتها هنا في مصر المحروسة ليس تعريفاً مطلقاً أو مثبتاً أو حتى متفقاً عليه. إذا كانت النقابة بحسب القواميس العربية هي «رابطة أو جمعية أو اتحاد لذوي المهن والحرف، ولها أنظمة داخلية تسمى «دساتير» وقوامها الانتخابات. أما مهمتها الرئيسية فهي تنظيم ممارسة المهنة، وتتسم النقابات العمالية بالعمل على الدفاع عن حقوق العمال. العمال الشباب هم الذين أسسوا ما يمكن تسميته بالحركة العمالية أو النقابية من دون وجود نقابة فعلية في مصر في مطلع القرن الماضي، وذلك من أجل الدفاع عن حقوق العمال في الشركات المملوكة للأجانب وفي قطاع الخدمات وعلى رأسها شركة الترام والكهرباء. وكانت المطالب المرفوعة في عام 1919 هي زيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل ومقاومة الفصل التعسفي والحق في الحصول على إجازة مدفوعة الأجر والحد من الجزاءات وتحسين المعاملة من قبل الملاحظين والاعتراف بنقاباتهم التي شكلوها للتفاوض نيابة عنهم. (من ملف «النقابات العمالية المصرية: رؤية ثورية»، الصادر عن كراسات اشتراكية). وتاريخ مصر الشبابي الحافل بالكثير من العمل النقابي والنضال العمالي لا يمكن اختزاله أو تجاهله أو التقليل من قيمته في ظل الوضع الثقافي الراهن في ما يتعلق بالنقابات. «صابر» (20 سنة) البائع الجوال المتمركز في مواجهة نقابة المهندسين يقول إنها «المكان الذي يحصل فيه المهندسون على العلاج ويشترون الشقق وأحياناً ملابس العيد بأسعار مخفضة». و «شيرين» (26 سنة) التي تمر من أمام نقابة المحامين يومياً تقول إن هذه النقابات ظلت أوكاراً للإخوان حتى تم تطهيرها، لكن أكثر من ذلك لا تعرف. و «مصطفى» (22 سنة) السايس في مربع نقابة الأطباء يرى أن «دار الحكمة» (مقر نقابة الأطباء) يؤكد أن النقابة هي المكان الذي يأتي إليه الأطباء الشباب من أجل إصدار رخص ممارسة المهنة والانتفاع من عروض الشقق والسلع المعمرة والدورات التدريبية التي تقدمها النقابة. وكل من سألتهم «الحياة» من عمال ومارة شباب في محيط النقابات الشهيرة في وسط القاهرة رددوا إجابات شبيهة لم يخرج أغلبها عن الدور الخدمي الاقتصادي للنقابات. لكن «نادية» (25 سنة) التي تبيع الخبز على مقربة من نقابة الصحافيين أضافت بعداً جديداً. «هذه النقابة للناس بتوع المشاكل. كلما شعروا بضيق أو تعرضوا لمشكلة جمعوا بعضهم، ووقفوا على سلالم النقابة، وهتفوا وصاحوا، وما أن يقترب الأمن حتى يجروا جميعاً إلى الداخل. حاجة غريبة». الغرابة الحقيقية تكمن في هذه الهوة السحيقة بين ظهور شبابي واضح في مجال العمل النقابي وبين رؤية الآخرين لهذا الظهور. هوة أخرى تميز أجواء النقابات هذه الآونة وهي تنام واضح لرغبة الأعضاء من الشباب في المشاركة وإبقاء آخرين على دور النقابة باعتبارها «بدلات ومشروعات علاج وشقق برخص التراب». أتربة كثيرة تتراكم على الفكر النقابي، لكن كثيرين يحاولون إزالتها. الصحافي الشاب في جريدة «الوطن» المصرية لطفي سلمان يقول إن هناك شقين رئيسيين في أي عمل نقابي: الحريات وقضايا المهنية، «لكن للأسف في ما يتعلق بنقابة الصحافيين، فقد جاء دخلاء كثيرون على المهنة في سنوات سابقة ما أضر كثيراً بالمهنة وسمعتها، وأثر سلباً في نوعية العمل النقابي، وهو ما يتجلى واضحاً في الانتخابات الأخيرة». نقابة الصحافيين التي خاضت قبل أيام انتخابات التجديد النصفي في أجواء مشحونة وملتهبة تعاني الأمرين. يقول سلمان: «ما زلت مقيداً في جدول تحت التمرين وهو ما لا يعطيني حق التصويت، لكن حتى لو كان لي هذا الحق لامتنعت عن المشاركة. لا أوافق على أي من المرشحين في هذه الانتخابات. فهناك من ينتمي لنظام سبق أن أسقطناه، وهناك من هو غير قادر على إقامة علاقة متوازنة مع الدولة. دور النقابة لا ينبغي أن يكون مع الدولة أو مع المعارضة». وينتقد سلمان كذلك كينونة العمل النقابي في داخل نقابة الصحافيين ويقول: «أصبح الفكر السائد في داخل النقابة في السنوات الأخيرة مقتصراً على سلم النقابة والبدلات التي يحصل عليها الصحافيون، بالإضافة إلى الصبغة السياسية العاتية التي تخيم على النقابة حالياً. وعلى رغم أهمية الجوانب الاقتصادية لمعيشة الصحافيين، إلا أن العمل النقابي يجب أن يشمل كذلك الجوانب المتعلقة بالمهنة نفسها وأدائها ومشكلاتها، وذلك بعد فترة وجيزة اتسمت بالتفاؤل في ما يختص بالعمل النقابي في أعقاب ثورة يناير». ويبدو أن ثورة يناير وأعقابها تؤثر في شكل واضح (سلباً وإيجاباً) على مواقف الشباب تجاه النقابات والعمل فيها. الصحافي الشاب وعضو مجلس نقابة الصحافيين وأحد أنشط الأعضاء محمود كامل يقول أنه «بعد ثورة يناير، سادت حالة من التفاؤل بين الجميع وشعر الكل بالرغبة الشديدة في المشاركة في العمل النقابي وتنشيط أدوار النقابات وإحيائها. وكان اللافت أن هذه الحماسة شملت الكبار والشباب على حد سواء. بل أن الأجيال الأكبر سناً كانت داعمة للمشاركة الشبابية بشكل واضح». لكن أتت رياح ما بعد الثور بما لم تشتهه الأرواح المتفائلة. يقول كامل: «للأسف المناخ العام في العام الأخير أدى إلى إحباط شديد لدى عدد كبير من الشباب، وأقصد تحديداً شقي الحريات والأجور. وبحكم الضغوط الاقتصادية فإن شق الأجور يسيطر على الغالبية». ويعود كامل إلى الإحباط، ويشير إلى أنه يسيطر في شكل أخص على أولئك الذين تمكنت منهم أحلام وآمال عدة في أعقاب ثورتي 2011 و2013. «لكن الأوضاع الحالية قضت على أحلام كثيرين. ويمكن القول أن الانتخابات الأخيرة (التي أجريت قبل أيام في نقابة الصحافيين) تاريخية». وسبب تاريخيتها هو أجواء الاستقطاب الشديدة في داخل نقابة الصحافيين تخلق أجواء بالغة السلبية، لا سيما بالنسبة للشباب. «الأطراف كلها تتنابز وتطلق الإشاعات وتخوض في الأعراض والذمم المالية لبعضها البعض». ويضيف أن «البعض يشير إلى أن البعض يشيع أن أحد المرشحين مدعوم من الدولة، لكن الحقيقة أنه مدعوم من وزارة الداخلية. لا أعتقد أن الدولة نفسها لها دور». دور الصحافي في أزمنة جيولوجية مضت كان خلع رداء السياسة على باب النقابة، لكن ما يحدث هو العكس. هناك من يحصر العمل النقابي في جمع الأصوات للانتخابات المقبلة عبر الدق على أوتار الدعم الاقتصادي والخدمات ذات الطابع المادي حيث أوضاع الصحافيين الشباب الصعبة. يقول: «يظل الدعم ورقة ضغط شديدة في زمن صعب». الزمن الصعب لم ينل بعد من البعض. الصحافية الشابة في «روز اليوسف» والمعروفة بحماستها وثوريتها أسماء نصار تعرض وجهة نظر أخرى في ما يختص بالشباب والنقابات. تقول: «مشاركة الشباب واهتمامهم بالانخراط سواء في السياسة والأحزاب أو في النقابات لم تكن موجودة في شكل واضح قبل ثورة يناير. ومع ثورة يناير، تنامت الرغبة لدى جموع الشباب للعمل السياسي بعد ما شعروا بالثقة في قدرتهم على التغيير والتفعيل. ومع ولادة أحزاب سياسية من رحم الثورة، وبزوغ شخصيات تتسم بالثورية والرغبة في التغيير، ازدحام الشارع السياسي بالشباب». وترى نصار أن من عوامل هذا الحراك هو ضمور دور الأمن في تلك الآونة ما نشط الحركة السياسية بشكل واضح وشجع الشباب على مزيد من الانخراط. تقول: «لم يكن هناك تلفيق قضايا تجسس أو قبض على أشخاص بتهمة التجمع حتى بعد ما خلعنا مرسي (الرئيس الأسبق محمد مرسي)». وترى نصار أن النقابات في تلك الآونة لم تشهد زخماً شبابياً بالقدر الكافي، وذلك لاتساع براح العمل السياسي العام. «لكن بدأت الدنيا تضيق، وبدأ الأمن في إغلاق مقاهي وسط البلد التي كنا نتجمع فيها، وظهر في شكل واضح المراقبين (المخبرين) من قبل الأمن لمتابعة التجمعات والنقاشات، وهو ما دفع كثيرين من الشباب إلى اللجوء إلى النقابات». النقابات بديلاً للعمل السياسي فكرة تسيطر على قناعات نصار. وعلى رغم وجود نوعيات مختلفة من الأعضاء في داخل نقابة مثل نقابة الصحافيين مثلاً، «حيث باحثين عن البدل وأكل العيش، أو متعاونين مع الأمن، أو حالمين بالحريات وممارسة مهنية أفضل ومستقبل أفضل للصحافة، إلا أن الشباب يميلون إلى التحيز لملف الحريات، حتى وإن كان أكل العيش يهمهم. أما الكبار (سناً) فأولويتهم البدلات والأمور المادية». ولا ترى الصحافية الشابة أسماء نصار بديلاً عن المزيد من المشاركة من قبل الأعضاء من الشباب لإنقاذ المهنة، والحصول على الحريات، ونصرة الزملاء الذين يتعرضون لقمع وظلم شديد في مؤسساتهم الصحافية القومية والخاصة. تقول: «النقابة أرض واحدة تجمع كل الأطياف. صحيح أنه بحكم طبيعة العمل الصحافي لا يمكن فصل التوجهات السياسية عن القضايا المهنية عن لقمة العيش، لكن النقابة تجمعنا. والعمل النقابي يتمتع بميزة كبرى تجعله متفرداً عن العمل السياسي، فهو أكثر صدقاً وأمانة واتصالاً بمصلحة المهنة، لا بمصلحة المستقبل السياسي لشخص بعينه». ولا يمكن تجاهل دور الشابات في العمل النقابي. تقول نصار: «نستمد منهن القوة والصلابة والجرأة التي كثيراً ما تفوق الزملاء من الرجال». وبينما تستمر الهوة بين ما يجري في داخل النقابات وما يجري في أدمغة المارة والسكان حولها، يحدث الشباب والشابات تغييراً في الفكر والمضمون أثرهما شبه مضمون.