إن كانت سوق الأسماك في جدة إحدى «إيقونات» جدة منذ عقود، فإنها اليوم تفتقد وهجها وبريقها القديم، حين خفتت أصوات عوائل الصيد الشهيرة، وحلت محلها أصوات العمالة الآسيوية بلغاتها المختلفة، فصار الصوت صوتها والزمان زمانها. ولا تكف أقدام الزبائن عن طرق جنبات وأزقة السوق بحثاً عن الأجود والألذ مما التقمته أدوات الصيد كل يوم، ووفق باعة السوق يبدو أن الإقبال نشط هذه الأيام عطفاً على انتهاء موسم «التلذذ» بلحوم الأضاحي، والتحول إلى الأسماك، وهنا يتحكم عامل الوقت بسعر الأسماك فكلما بكر الزبائن في الشراء ارتفعت الأسعار، غير أن عوامل أخرى تحكم السوق كحال الطقس عند الصيد، فكلما كانت الظروف الجوية غير مواتية كان ذلك عاملاً حاسماً في زيادة السعر. وتبدأ السوق نشاط البيع على فترتين فمن بعد صلاة الفجر يفتتح المزاد ليدخل أصحاب المحال والزبائن في المضاربة على الأسعار حتى الساعة التاسعة صباحاً، ليتحول السوق بأكمله إلى البيع من طريق وحدات البيع. ويعلو صوت أحد الباعة في «البنقلة» مخبراً عن شحنة أسماك فاسدة يعمل موظفو الرقابة على إتلافها في حراج السوق، مشدداً على تحري مصدر شحنها حتى لا «تلتصق» التهمة بباعة السمك «البلدي». وقفت «الحياة» خلال جولتها في السوق على ضبطية تفوق كميتها طنين من الأسماك المستورد من باكستان، ووفقاً للمشرف على سوق السمك المركزي المهندس فواز الحربي فإن عقوبة إقفال المحل ستطبق على مستورد الشحنة نتيجةً لتكرار المخالفة إضافة إلى غرامةً مالية تتراوح مابين 2000 إلى خمسة آلاف ريال. وحول جدوى نظام العقوبات مقارنة بحجم المخالفات والمضبوطات الكبيرة، يجيب المهندس فواز ب «لا»، مؤكداً أن فريق المراقبين يسجل ضبطيات كبيرة من أطنان السمك الفاسد بمعدل أسبوعي بالنسبة للأسماك المستوردة، بينما يتم ضبط أسماك فاسدة يومياً لا تزيد كميتها عن 10 كيلو غرامات من السمك «البلدي». وبحسب المشرف على السوق فإن معظم مصادر السمك الفاسد تأتي من اليمن وباكستان من بين دولٍ كثيرة تصل وارداتها إلى جدة كعمان، والإمارات العربية المتحدة، وفيتنام، والصين، وربما تستساغ مرارة مؤشر الأسعار المتقلب وفساد الأسماك عندما يحكي الباعة قصتهم مع السوق، مثل البائع فرج عطية وهو من السعوديين القلائل الذين يتواجدون في محلهم في ساعات البيع بعدما تغلب حضور العمالة الأجنبية بلباسها «الأزرق» على عمائم السعوديين وثيابهم. يشير عطية إلى أن جميع المحال مستأجرة بأسماء سعوديين لكنها مؤجرة بالباطن لعمالة أجنبية مع أن عقود نظام الاستئجار الصادرة من إدارة الاستثمار في أمانة جدة تنص على وجود صاحب المحل في وحدته المستأجرة حتى يحصل على الرخصة. ويقول فرج: «على رغم محاولات الإدارة في التخاطب مع أصحاب المحال للتنبيه على ضرورة الحضور والإشراف على البيع ملوحةً بالتهديد والغرامات إلا أنهم لا يستجيبون». مضيفا: «إن العمالة الأجنبية لا يعبؤون بالنظافة ويمارسون صنوف الاستغلال والكذب والغش على الزبائن الأمر الذي أضر بسمعة السوق»، مشيراً إلى أن عدد الوحدات الموجودة في السوق يزيد على 100 وحدة، وهي كفيلة بتوفير أكثر من 500 فرصة عمل للسعوديين. ويمضي بالقول: «على مدى 15 عاماً تضاعف سعر إيجار وحدة البيع التابعة للعم فرج ثلاث مرات، بدءاً من 15 ألف ريال وصولاً إلى 27 ألف ريال، ولا تتوقف الحال عند هذا الحد، ففاتورة الأعوام التي يقضيها أهل المهنة في عرض البحر أو على عتبات الدكاكين باتت بغير ثمن». يتنهد عطية طويلاً ليقول: «إن سنوات عمره في السوق جعلته «يعتبر» مما آلت له حال الصيادين والباعة، فكثيرُ ممن كانوا يعملون معنا أصابهم العجز أو ماتوا فتسحب من أبنائهم «الدكان» ليصبحوا من دون دخل يكفيهم مذلة السؤال، نحن لا نمتلك مصدر دخل غير بيع الأسماك، فلسنا مسجلين في الضمان الاجتماعي لأن كل واحد منا لديه على الأقل عامل واحد في محله ما يعني أن النظام يجعله غير مستحق للإعانة».