لم يكن الحراك الثقافي العربي قليلاً، بل كان من الكثرة إلى حد الامتلاء أحياناً، أو إلى حد الفوضى أحياناً أخرى، متأخراً جاء هذا الفعل والتفاعل أو متأخراً. المهم أنه قد حصل. تأثر هذا الحراك وتموج مع التحولات وظروفها والتحديات وقسوتها، تنازعت ذاته بين الهوية والمصلحة. مصلحة لو لم يكن منها إلا دفع المضرة وتقليل المفسدة ولو كما يراها الفاعل بعقله الفردي في ظل تحييد أو تغييب للعقل الجمعي! كما انقسمت ذاته بين أيديولوجيات دينية وأخرى قومية بعضها منسحب نحو الماضي متأزم من الانسلاب كما يراه ويشعر بألمه، وبعضها يسير في نفق مسدود معلوم النهاية معدوم الجدوى، وثمة جهود اتسمت بالمأسسة أو هي كذلك، ولكن ما هو مشروع هذه المؤسسة؟ وعلى ماذا الرهان؟ وقطعا لا رهان لمن لا وعي له. التحول إلى الإنتاج لم يكن واضح المعالم لدى الفاعلين سوى في حالات فردية معدودة. ذلك أن الإنتاج الثقافي يستلزم حقولاً معرفية واسعة وبذوراً صالحة، أما الحروب الكلامية والنزاعات اللفظية والترديدات الاستهلاكية فقد بددت الجهود وأهدرت الطاقة وأشغلت مراكز التفكير نحو اللامفيد، واللاصحيح، واللاراهن واللامستقبل. هذا الحال لم يكن راضياً مرضياً. بل كان محل النقد من أصوات بحّت حتى اتهمت. ومن أقلام كتبت حتى كُسرت. حتى إنك لتتعب حتى تجد مثقفاً منتجاً يستضيفه الإعلام وتستكتبه الصحافة. ليس الأمر سوداويا مظلما. لكن حجم الفراغ هائل وفجوة الأرقام مخيفة. وفي المقابل كان لدى مجتمعات أخرى ما تنتجه وما يستحق الاهتمام ويثير الجدل لما انطوى عليه من حقائق جديدة أو حقائق تلغي مسلمات موهومة أو حتى تشكك فيها. وتطرح أسئلتها وبقوة على معسكرات عقائدية ومحروسات إيمانية، ناهيك عن عادات وتقاليد وموروثات اجتماعية. تحت الأضواء الكاشفة للاتصال المعلوماتي والانفتاح المعرفي كان لزاماً على بعض الأوراق أن تحترق إذ «الحقيقة في كل شيء تغلب المظهر في كل شيء»، وقطعاً لم تكن تلك الفتوحات الاتصالاتية المعلوماتية كلها ك«السمن على العسل»، لكن كان فيها ما كان مما هو دون إدراك المثقف العربي. كانت هذه الكثرة من الحراك الثقافي محط الأنظار والترقب بين من يعلق الأمل فيها، ومن يشعر بالألم منها، فأصحاب الأمل تحرك مشاعرهم الطيبة التي يختزنونها، والرحمة التي ينتظرونها راجين أن يتمخض هذا الحراك عن نظريات ثقافية ورؤى اجتماعية وتأثيرات سياسية ودواعم اقتصادية، ترتقي بالحالة العامة نحو معارج الصعود وفي الاتجاه الصحيح وبشكلٍ صحيح. وأصحاب الألم تلسعهم حرارة الواقع بحركاتها القوية والسريعة. فلا يرون لشيء مستقراً ولا مستودعاً إلا على صفيح ساخن. لا مقدسات، لا حريات، لا قوميات، لا أوطان، ولا اقتصاد. وهؤلاء ربما تدار حياتهم بشيء من التشاؤم الذي يوقف الحركة ويقطع الطريق، فالإحباط ثقافةٌ بقدر ما هو آفة. دائماً وأبداً وتحت كل وطأة يتوجه اللوم على الثقافة والمثقفين، وهذا اللوم صحيح في الوقت الذي هو ليس صحيحاً فيه. صحيح أن المثقف مرتكزٌ للتأثير، لكن الفصل بين البعد الثقافي والأبعاد الأخرى (السياسية والاجتماعية والاقتصادية)، ومحاولة النهوض أو حتى المعالجات على هذه الطريقة الانفصالية لن تعطي إلا مسكنات وقتيه وملمعاتٍ مظهرية. في عصر القوة والسرعة، وفي عصر الاقتراب والتكتل، وفي عصر الهيمنة والسيطرة لا مجال لمحاولة الابتعاد والاكتفاء، إذ كل شيء يحرك كل شيء، لقد فهمنا من معطيات عصرنا أن لا صحة للتصادم ولا للسقوط والإسقاط، ولكنه عصر التنافسية والقوة في العطاء في كل شيء حتى الثقافة، أو هي الثقافة أهم شيء. الصعود الثقافي حتمية تعتمد على السبق وقوة المعرفة وجودة الإنتاج وحرية الانتقال ومرونة التفاعل، يضاف إلى ذلك إنسانيتها في كل تفاعلاتها. هذه السمات مؤهلة للمثقف وما يحمله أياً كانت الأرض التي تقله والسماء التي تظله أو اللون الذي تنصبغ به بشرته أو تتلون بها عيناه. نحن ننتظر صعوداً واعياً لثقافاتٍ هنا وهناك مختلفة الألسن متغيرة المناخ، وبالطبع لن تسعى لإسقاط غيرها أو الصدام معه، إذ لا معادلة إلا للتقدم أو التأخر. (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر). [email protected]