أزجى جرّاح القلب العالمي البروفسور مجدي يعقوب الشكر إلى «مكتبة الإسكندريّة» لاستضافتها ورشة عمل أخيراً حول «أخلاقيّات تحرير الجينات ومناهج البحث»، معتبراً أنّ تقنيّات تعديل الجينات (وهو المعنى المقصود بكلمة «تحرير الجينات» Genetic Editing تشبيهاً بعملية تحرير النصوص المكتوبة) تمثّل نقلة نوعيّة في مسار تقدّم علوم الطب والبيولوجيا. شاركت في الورشة وزيرة البحث العلمي المصري سابقاً الدكتورة نادية زخاري ونخبة من الأطباء المصريّين المهتمّين بعلوم الجينات وتطوّراتها. وأدار الورشة الدكتور يحيي حليم زكي، وهو مستشار لمدير «مكتبة الإسكندريّة». وفي الافتتاح، تحدّث مدير المكتبة الدكتور إسماعيل سراج الدين عن أهمية علم الجينات ودوره في المستقبل البشري، لافتاً إلى أنّ ذلك الموضوع ناقشته لجنة كوّنتها «الأكاديميّة الأميركيّة للطب والجراحة» ضمّت 22 عضواً من مختلف الدول. وأوضح أن ذلك الأمر جرى ضمن فعاليّات «القمّة العالميّة حول تحرير الجينات»، التي نظّمتها مؤسّسة «الأكاديميّات الوطنيّة للعلوم والهندسة والطب»The National Academies of Sciences, Engineerinig & Medicine في واشنطن أواخر العام 2015. وأضاف سراج الدين أنّ تلك اللجنة ناقشت المحاور المتعلّقة بتقنيّات تعديل (تحرير) الجينات، بما فيها الخلفيّة العلميّة للتقنيّات وبحوثها وتطبيقاتها، ووجهات النظر العالميّة في شأنها، إضافة إلى الآثار الاجتماعيّة التي يتوقّع أن ترافق انتشارها كممارسة طبيّة وعلميّة. وأضاف أنّ قضية تعديل الجينات معقّدة في مفهومها الشامل، إلا أنّ البحث فيها يجري بوصفه ضرورة حتميّة. وقدّم أيضاً شرحاً مبسّطاً عن مفهوم تحرير الجينات وأهميته، والثورة الحديثة في علم الجينات («جينومكس» Genemocis) وكيفيّة تفاعلها مع الإنسان بحد ذاته. وبسط سراج الدين مجموعة من الآليات المستعملة في تعديل الجينات وتحريرها، خصوصاً تقنية «كريسبر» CRISPR التي اعتبرت اختراقاً علميّاً بارزاً نظراً إلى تبسيطها عملية تعديل الجينات بما يمكّن من استخدامها عمليّاً على نطاق واسع. ولفت أيضاً إلى ضرورة وضع ضوابط لذلك الأمر، مشيراً إلى أنّ بعض الدول سمحت باستخدامها في دراسة أمراض وراثيّة ناتجة من استبدال جين مفرد، بهدف تلمّس أفق استعمال «كريسبر» أداة للوقاية من تلك الأمراض. رأيٌ من... القلب! وناقش يعقوب الإمكانات الكامنة في تطبيق تقنيّات التعديل الجيني على مرض الاعتلال الموروث لعضلة القلب. وأوضح أنّه يتسبّب في مجموعة كبيرة من الوفيّات، ومسؤول عما يقارب 50 في المئة من حالات فشل عمل القلب، ما يعني أنّه يمثّل عبئاً كبيراً على نظم الرعايّة الصحيّة في الدول كلها. وألقى يعقوب الضوء على وسائل العلاج بالخلايا الجذعيّة Stem Cell (تسمّى أيضاً «خلايا المنشأ»)، وتقنيّات فحص أنواعها. واستعاد الإنجاز العلمي التاريخي لمؤسّس علم الجراثيم الدكتور روبرت كوخ المتمثّل باكتشاف البكتيريا المسبّبة لمرض السلّ (ما زالت تحمل اسمه) ما أكسبه «جائزة نوبل» في الطب في 1905، مشيراً إلى أنّ البكتيريا هي أيضاً نوع من الخلايا. وذكّر يعقوب بأنّ كوخ بذل جهوداً علمية كبيرة لاكتشاف الميكروبات والجراثيم ودراسة الأوبئة، وكان أول من أثبت أن الأمراض المُعدية التي كانت تفتك بشعوب أوروبا، سببها خلايا حيّة لا تُرى إلا تحت الميكروسكوب. وبدأ كوخ تجاربه بتنمية بكتيريا «الجمرة الخبيثة» في المختبر متابعاً مراحل نموها تحت مجهره، ثم حقنها في فئران، فظهرت عليها أعراض مرض «الجمرة الخبيثة» المميت، ما برهن على وجود علاقة سببيّة مباشرة بين الخلايا البكتيريّة التي رصدها بالميكروسكوب، وبين مرض الجمرة. ومنذها، ترسّخ في علوم الطب ما يعرف باسم «مبدأ كوخ» الذي يشير إلى علاقة مباشرة بين المرض من جهة، والعنصر المسبّب له من جهة ثانية. وانثنى يعقوب إلى الزمن الحاضر متحدّثاً عن تجربة الطبيب البريطاني الذائع الصيت السير جون غوردون الذي قدّم مساهمة ضخمة في علم الأحياء التطوّري Evolutional Biology. وعُرف ببحوثه المتميزة في الاستنساخ وتقنيّة نقل النواة Nuclear Transfer التي شكّلت الأساس لعملية الاستنساخ، خصوصاً بالطريقة التي استُنسِخَت فيها النعجة «دوللي» الشهيرة في العام 1996. وآنذاك، نقلت نواة من خليّة بالغة إلى بويضة أفرغت من نواتها. وعملت النواة المنقولة كأنها حيوان منوي، بمعنى أنها لقّحت البويضة، فحصل حمل، فتكوّن جنين، ثم نضج ليصبح أول حيوان ثديي مستنسخ. واشتد صيت غوردون شيوعاً كرائد في بحوث الخلايا الجذعيّة، مع نيله جائزة نوبل في الطب العام 2012، مناصفة مع العالم الياباني شينيا ياماناكا. وآنذاك، أشارت لجنة نوبل إلى أنّ الإنجاز العلمي الذي مُنِحْ الجائزة كان النجاح في الحصول على خلايا جذعيّة انطلاقاً من خلايا بالغة، ما يغني عن اللجوء إلى استخراج الجذعيّة من مكوّنات جنينيّة كالحبل السريّ والمشيمة وسواها. وكذلك يعني إنجاز ياماناكا- غوردون إمكان التوسّع أفقيّاً وعموديّاً في بحوث الخلايا الجذعيّة التي تعد بإمكان التغلب على الأورام السرطانيّة وأمراض مستعصية كشلل «باركنسون» الرعّاش، وخرف «ألزهايمر» والإصابات في الدماغ، إلى جانب مجموعة كبيرة من الأمراض الوراثيّة. مشاركة وراثية ضمنت شفاء البويضة من مرضها ضمن أفق علمي واعد ارتسم في نقاشات الندوة التي نظّمتها «مكتبة الإسكندريّة» أخيراً عن تقنيّات تعديل الجينات، ألقى البروفسور يعقوب أضواءً علميّة كاشفة على كيفيّة التعرّف إلى أنواع جينات يعتقد بأنها هي التي تتأثر خلال عملية نشوء الورم السرطاني. وأشار مستشار مدير مكتبة الإسكندريّة للشؤون العلمية الدكتور يحيى حليم زكي، إلى أنّ صعود حركة العلم في تقنيّات تعديل الجينات والتراكيب الوراثيّة، يفرض أيضاً التنبّه لضرورة صوغ تشريعات وقوانين تتناسب مع إيقاع تلك الحركة وآفاقها. وأضاف أن التقدّم المذهل في تقنيّات تعديل تراكيب الحمض النووي الوراثي (يعرف باسم المختصر «دي أن إيه» DNA) فتح الباب مشرّعاً أمام تغيير شيفرة الجينوم البشري الذي بات التلاعب به في متناول البشر للمرّة الأولى في التاريخ المعروف لوجودهم على الأرض. وأشار إلى أنّ المملكة المتحدة سمحت أخيراً بعملية تعديل في التركيب الوراثي، تعدّت التعديل الجيني! إذ كانت المرأة تعاني مرضاً في مكوّن خارج نواة الخلايا (بما فيها نواة البويضة)، يسمّى «ميتوكوندريا» ويوصف بأنه «بيت الطاقة» للكائن الحي. ونُقِل إلى تلك البويضة «ميتوكوندريا» من بويضة لإحدى المتبرّعات، قبل أن تُلقّح بحيوان منوي. ويعني ذلك أن 3 أطراف شاركت في تلك العمليّة التي سعت إلى التخلّص من مرض وراثي (في ال «ميتوكوندريا») هي: المتبرعة والذكر والمرأة التي تلقت بويضتها «ميتوكوندريا» خالية من المرض، ولُقّحت بحيوان منوي. وأشار الإعلام إلى تلك العملية بعبارة «الطفل ذو الثلاثة آباء» Three- Parents Baby. وأكد المستشار يحيى أن العالم يشهد تطوراً متسارعاً في عمليات زرع الأعضاء التي يتشارك فيها أحياناً أطراف من أجناس بيولوجيّة مختلفة. ويقصد بذلك أنه من الممكن استعمال الأعضاء الآتية من حيوانات ثديّية مثلاً، لاستخدامها بدل ما يتلف في جسد الإنسان، كالكلية والبنكرياس والغدة الدرقيّة وغيرها. وأوضح أنّ ذلك بات مستطاعاً بفضل علوم الجينات التي مكّنت من تجاوز عقبات كأداء كانت تحول دون إتمام تلك العلميات في أزمنة صارت من الماضي علميّاً. في المقابل، شدّد يحيى على ضرورة صوغ معايير وضوابط سلوكيّة عميقة على تلك الممارسات التي تعني ببساطة أن التلاعب بالجينات صار أمراً ممكناً، بل أن كلفته تتدنى بصورة مستمرة. وشهدت الندوة عينها حواراً نشطاً عن البحث العلمي وتصميمه وضوابطه في المجالات كلها، خصوصاً علوم الطب والبيولوجيا. وتناول الحوار مجموعة من الإجراءات البحثيّة المتّصلة بالكشف المبكّر عن الأورام السرطانيّة، إضافة إلى الطرق الأكثر حداثة في علاجها. وعرج النقاش على مسائل تتعلق بالعلاج الكيماوي لأمراض السرطان، مشدّداً على ضرورة الحرص حيال استخدام بعض العقاقير الجديدة من دون التثبّت من سلامتها بطريقة كافية.