يظن بعضهم ان العودة ممكنة في وقت قريب إلى الأنواع الفنية التي تخلت عنها تيارات ما بعد الحداثة واستبعدها الفنانون الجدد من دائرة اهتمامهم كالرسم والنحت. ظن هو في حقيقته نوع من التمني الذي لا يستند إلى معرفة تفصيلية دقيقة بواقع تحولات الفن في العالم. اضافة إلى أن جدلاً من هذا النوع لم يكن قائماً إلا في حدود مدرسية ونقدية ضيقة، فإن رعاية الفنون الجديدة صارت اليوم جزءاً من حيوية المجتمعات الثقافية، معبراً عنها من خلال آلية جديدة اعتمدتها أسواق الفن. وهي آلية لا تستند إلى معادلة العرض والطلب باعتبارها مقياساً، كما كان يحدث في السابق. لقد صار واضحاً إن المسألة تتخطى حدود فكرة مقاطعة أنواع فنية بعينها وإهمالها إلى الانحياز إلى فن يتخذ طابعاً اجتماعياً، بل أن ذلك الانحياز يهدف إلى أن يكون الفن في جوهره قضية اجتماعية، بالمعنى الواسع الذي ينطوي عليه ادراك الشيء الفني باعتباره فكرة نضال مشترك. صار الفن تعبيراً مفتوحاً عن الثقافة المعاصرة. وهي ثقافة تستمد مظهرياً جزءاً من طابعها من حيوية السوق، باعتباره مقياساً للاستهلاك، نوعاً وطبيعة محتوى وتبادل معلومات. غير أن ذلك الطابع لا يشكل إلا المظهر الفائض، حيث يتسع الجوهر ليشمل قضايا من مثل: تداخل وسائط التعبير الحديثة، اتساع الاهتمام بالبيئة، التفكير بالفن بصيغته الجمعية، تقارب الثقافات المختلفة وتقابلها وتقاطعها وامتزاجها، تطور مفهوم الهوية، تغير جدلي داخل الفعل الفني ذاته فرض نهاية لجماليات كانت تحيل الفن الى ذاته وتستمد قوتها من تقنياته. ولأن الفكر حل محل العاطفة فقد ضعف الاهتمام بالصورة، إذا لم نقل تلاشى. ولهذا السبب يمكننا الحديث عن فكر ما بعد الصورة الذي هو البديل المتمرد نقدياً على ثقافة الصورة. وهي الثقافة التي صارت تصنع وعي الجماهير بطريقة سلبية وسطحية. لم تعتمد الفنون الجديدة (فن المفاهيم، فن الحدث، فن الجسد، فن الفيديو، فن الأرض، التجهيز والإنشاء والتركيب، فن الإداء الجسدي، فن الفوتو وسواها) على مبدأ تثوير الصورة بل اعتمدت على مناهضتها وانتهاكها أو على الأقل الذهاب إلى ما بعدها، حيث البعد الفكري الذي هو أشبه بالمتاهة بسبب تشعب المعاني الجديدة لمفهوم الفن. وهي نزعة تأخذ في الاعتبار البعد الاستهلاكي الذي ساهمت ثقافة الصورة في ترسيخه عنصراً جوهرياً من عناصر وعي الإنسان المعاصر بسبل العيش ومسالك تحديث اسطورته. لقد حول الأميركي أندي وارهول مواد ذلك الوعي إلى ايقونات، كانت بمثابة جرعة مركزة لكل ما تراه العين. بفضل هذا الاهتمام انتهى عصر الصورة، وانتهى الوله الفني بالاستهلاك. ومعه بدت أساليب الحداثة كما لو أنها قد استهلكت كل ما لديها من ذرائع للبقاء وانتهى عصر الروائع حيث كفت المتاحف عن التبجح بهيمنة الماضي على الحاضر. لقد ولد فن جديد، لا يستخرج مادته من عناصر الفن المتاحة تاريخياً. أسس هذا الفن قطيعته على رؤى بيئية محسوسة من خلال وسائط تعبير صارت جزءاً من الحياة اليومية المباشرة. سيكون علينا دائماً إذاً الحديث عن مزاج ثقافي يقوى على أن يكون معاصراً، وهو مزاج يحارب كسله المعرفي ويجدد معلوماته ولا يستسلم للتقنية قبل أن يأخذ بأسباب وجودها الفكرية وينأى بنفسه بعيداً من الاحتكام إلى التاريخ، الذي لم يعد سوى مجموعة من الغوايات المستعادة في صفتها ألغازاً في لعبة مأمونة الجانب. من طريق ذلك المزاج يمكننا على الأقل ايقاف عجلة الاستهلاك، بعد أن تحول الفن إلى ماكنة لإنتاج البضائع. لقد كانت السوق، على رغم اهميتها، بمثابة فخ خطير سقط من خلاله الفن الحديث في معادلات تجارية، كانت مزادات الفن أفضل تعبير عنها. لنرى كيف تُقيم عذابات فنسنت الآن؟ كذلك لا أحد يفكر بلوعة تولوز لوتريك وهو يرسم فتياته. غوغان كان ضائعاً ومريضاً في تاهيتي. أرشيل غوركي انتهى منتحراً. تتذكر سيمون دي بوفوار في مذكراتها جياكومتي جالساً على الرصيف في سان جيرمان وهو يبكي. لا شيء من كل هذا في المزاد. لقد قضت السوق على إنسانية الفن. جاءت الفنون الجديدة لتعالج مرضاً اسمه السوق. وهو مرض اصُيبت به الثقافة مثلما أصُيب به الفنانون أنفسهم. وكما أرى فإن كل أفكارنا عن الفن، وهي على العموم أفكار قديمة، انما هي أعراض لذلك المرض. جمال بائد لا يزال ينغص علاقتنا بالفن. يوماً ما سنفهم أننا تأخرنا مرة أخرى. إذاً بدلاً من البحث عن الحساسية الجمالية الضائعة يُفترض بنا أن نبحث عن سبب لهذه القيامة الفنية. وهي قيامة تذهب بالفن إلى منابع جديدة، غير تلك المنابع التي استمد منها الفن حيويته طوال أكثر من خمسة قرون. سيكون مدهشاً أن نكتشف أن الفنان (وقد كان بسبب عبقريته الاستثنائية بمثابة وصي على لذائذنا الجمالية) هو انسان يكتب يومياته، ميزته عنا تكمن في انه استطاع ان يسخر موهبته من أجل أن يقبض على المعنى. وقائع وأشياء كثيرة نعيشها ونكون على تماس يومي معها صنعت كل هذا الفيض من المعاني. في كل بيت هناك مرآة. هناك مرايا كثيرة في كل بيت، لكن مرآة انيش كابور التي كلفت عشرة ملايين دولار هي مرآة استثنائية. كذلك بوقه في تيت غاليري. سيكون المرء سعيداً لأنه يرى نفسه في مرآة كابور التي لا يتوقف معناها عند مفهوم الوصف. هي مرآة العالم كله وقد صار قادراً على الإنصات إلى الحقيقة. لقد صار علينا أن نثق بالفن باعتباره معياراً لحقيقة نعيشها. حقيقة هي مادة واقعنا الذي لا نستطيع الهروب منه أو التملص من مسؤوليتنا عن صنعه. ما يحدث من حولنا من حروب ومجاعات كوارث بيئية وبشرية وجرائم ضد الإنسانية وتجاذبات بشعة تحط من شأن الإنساني لتصل به إلى مستوى الطائفة والقبيلة والمذهب والعرق انما يجعل من مهمة اعادة تعريف الفن ضرورة ملحة. هناك هوية للفن ينبغي أن لا يفارقها، هي هويته الإنسانية. وهو ما تلح الفنون الجديدة على أن تفني مواهبها من أجله. ليس المهم أن يكون هناك رسم أو نحت، فهما فنان زائلان مثلما هي الملحمة وفن الفريسكو. ما هو مهم فعلاً أن نكون قادرين على تجديد عواطفنا من طريق فكر يعلي من شأن كرامة الإنسان. هذا ما تفعله الفنون الجديدة.