يعد تداخل الأجناس ظاهرة عامة تميز الإبداع في عديد من مجالاته، ومنها المجال الأدبي والمجال السردي تحديداً، وسنحاول في هذه الورقة تخصيص درس هذه الظاهرة في المجال الأخير وما يشمله من عديد الأجناس والأشكال. فالرواية على سبيل المثال بوصفها أبرز أشكال السرد الراهن يستعصي على بعض الدارسين تحديدها الأجناسي على رغم تعيينها بهذا الاسم، إذ يرون فيها فناً من الإنشاء رافضاً لكل الضوابط والحدود وذلك لقدرتها العجيبة على استيعاب ما لا حصر له من الأجناس والفنون. فالخطاب الروائي فضاء لغوي وتخيلي مترامي الأطراف لا تتداخل فيه الأجناس فحسب، وإنما تتفاعل فيه وتتقاوض. وقد أدت هذه الخاصية إلى ظهور تصنيف لعديد الروايات يمثل أولى عتبات إبراز هذه التداخل وواجهاته. من ذلك ما يعرف ب«المسرواية» ففي هذا الصنف يتداخل الشكل السردي قصة «طويلة» أو «قصة قصيرة» مع الشكل المسرحي فتصاغ الرواية مثلما يصاغ هذا الشكل أي يبنى خطابها على طريقة الحوار المباشر، ويجول فيها السرد والوصف إلى إشارات تصور مقام هذا الحوار وسياقه الخارجي. ومن ذلك ما يعرف برواية الواقعية الأسطورية (في أميركا اللاتينية)، إذ يتداخل القص الواقعي مع القص الأسطوري مثل رواية «مئة عام من العزلة» للكاتب غابريل غارسيا ماركيز. وفي أدبنا العربي المعاصر ما يشاكل هذا النوع من السرد مثل كتابات إبراهيم الكوني، ففي روايات هذا الكاتب تتداخل نماذج متنوعة من القص العربي القديم في تشكيل عالم الطوارق الصحراوي على غرار روايته «الدنيا ثلاثة أيام» الصادرة في العام 2000 والتي تمثل تصرفاً متعدد الوجوه في مثل يصوغه خبر عربي قديم رواه ابن عبد ربه في كتابه «العقد الفريد» يرسم كنائية تختزل حياة الذات البشرية في ثلاثة أيام رمزية: أمس (رمز الماضي) واليوم (رمز الحاضر) والغد (رمز المستقبل). ومن صور التداخل بين الأجناس كذلك ما غلب على مؤلفات الكاتب المصري إدوارد الخراط التي تكاد يغيب تصنيفها إلى روايات لتعوضه تصنيفات أخرى تؤكد هذا التداخل مثل: «القصة - القصيدة» أو «الكتابة عبر النوعيّة» وهي كتابة تتفاعل فيها عديد الأجناس مثل روايته «رافة والتنين» و«الزمن الآخر» و«أزمنة متطايرة». وكذلك ما غلب على أعمال الكاتب اللبناني إلياس خوري مثل «مملكة الغرباء» و«أبواب المدينة» و«الوجوه البيضاء». فالدارسون لهذه الأعمال يسمونها «الرواية الشعرية» لتداخُل خطابها السردي الإخباري مع إيحاءات الخطاب الشعري. وقد شهد تداخل الأجناس السردية أوجه نسبياً في الأدب العربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي عبر محطات عديدة من البلاد العربية، ففي هذه العقود تصاعد ما يسمى بموجة «التجريب»، ودعا أنصار هذه الموجة إلى إزالة الحدود بين كل الأجناس لكتابة ما سموه ب«النص» أو «الكتابة النصيّة» تخليصاً لهذه الكتابة عندهم من كل قيد أجناسي. ولإن تأثر هؤلاء التجريبيون تنظيراً وممارسة بموجة الرواية الجديدة في فرنسا في النصف الثاني من القرن الماضي، خصوصاً بجماعة «كما هو». وعلى رأسهم فيليب سولرز، فقد سعوا فيما أنتجوا من سرد، إلى تطوير التصنيفات الأجناسية الجاهزة وتأكيد التداخل بينها من هؤلاء على سبيل المثال: الكاتب عز الدين العدني في تونس وجيل الستينيات أو جماعة جاليري 68 في مصر وأمين صالح في البحرين. وبصرف النظر عمّا آلت إليه هذه الموجة في واقعنا الراهن وعن مدى ما تحقق من طموحنا إلى «الإنشاء على غير مثال» كما يقولون أو من «فتح لسبل في الإبداع غير مطروقة» قوامها لا التداخل بين الأجناس فحسب، وإنما الخروج عنها وتجاوزها كليا فإن جانباً مما أنشؤوه أسهم في تطوير ظاهرة تداخل الأجناس وتنويع صورها في الخطاب السردي. وقد رافقت الحركة السابقة حركة أخرى في الأدب العربي المعاصر سقت تداخل الأجناس في الأشكال السردية بعملية «تأصيلها في التراث»، فعاد أنصارها إلى القص التراثي واستلهموه أشكالاً مختلفة كالأخبار والحكايات والأمثال والأحاديث والمقامات، ووظفوها في رواياتهم وأقاصيصهم فمثلت هذه الموجة مجالاً آخر من مجالات تداخل الأجناس مكنت من مفاوضة التراث من جهة، وأسهمت في تجديد إنشائه من جهة أخرى. وهذا ما نلاحظه مثلاً في بعض مؤلفات محمود المسعدي مثل قصته «حدث أبو هريرة قال» أو قصته القصيرة «السندباد والطهارة» التي استوحاها من حكايات ألف ليلة وليلة، فحولها من شكل سردي قديم إلى أقصوصة رمزية توحي برؤيته للوجود. وهذا ما نلاحظه أيضاً في بعض أعمال نجيب محفوظ ومنها روايته «ليالي ألف ليلة» التي استأنف بها الحكايات القديمة ووسع آفاق مخيلها السردي. وهذا كذلك ما نرصده في جل كتابات جمال الغيطاني مثل روايته: «الزيني بركات» (1974) و«خطط الغيطاني» (1981). والحاصل من هذه الملاحظات أن تداخل الأجناس الذي يعد سمة أساسية من سمات الفعل الإبداعي ومنه الإبداع السردي يدعونا إلى إعادة النظر في مدى صحة مقولة «صفوية الجنس وأحاديته» في الخطاب السردي الواحد، فنكاد نجزم بأن هذا الخطاب بمثابة الشجرة التي تخفي الغابة. *ناقد وأكاديمي.