يبدأ وصول وفود الحكومة السورية وقوى المعارضة الأخرى، بمن فيها «الهيئة التفاوضية العليا» ومجموعة القاهرة و «منصة موسكو»، إلى جنيف اليوم (الأربعاء) لانطلاق المفاوضات غداً برعاية المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا لبحث «الانتقال السياسي» بموجب القرار 2254 وبنوده الثلاثة: الحكم، الدستور والانتخابات. وكان دي ميستورا قرر أول من أمس توجيه دعوة خطية إلى «منصة موسكو» برئاسة رئيس «جبهة التحرير والتغيير» قدري جميل الذي قرر تلبية الدعوة وتسمية خمسة أعضاء للوفد برئاسة حمزة منذر بعد يوم من إعلان «مجموعة القاهرة» المشاركة في الانتخابات برئاسة جهاد مقدسي وعضوية أربعة آخرين بينهم جمال سليمان. بذلك، بات وفد المعارضة يضم هاتين المجموعتين، إضافة إلى «الهيئة التفاوضية العليا». وفي بداية 2016، دعا دي ميستورا مجموعتي موسكووالقاهرة لإجراء «استشارات»، لكن هذه المرة تضمنت دعوته المشاركة في المفاوضات لتطبيق القرار 2254. وقال مسؤول دولي إن القرار الدولي يطلب من دي ميستورا إجراء مفاوضات في شأن «عملية انتقال سياسي». وكانت الأممالمتحدة تراجعت الأسبوع الماضي في ما يبدو عن استخدام عبارة «انتقال سياسي»، وهو ما فهمته المعارضة بأنه يعني الإطاحة بالرئيس بشار الأسد أو تقويض صلاحياته على الأقل. وقال مايكل كونتت مدير مكتب مبعوث الأممالمتحدة في إفادة دورية بالمنظمة الدولية، إن دي ميستورا يضع اللمسات الأخيرة على الترتيبات الخاصة بالمحادثات. وقال: «الدعوات وكذلك جدول الأعمال الموضوعي الثابت مبنية على النطاق الواسع لقرارات مجلس الأمن خاصة 2254 الذي يعد الموجه الأساسي لنا في هذه العملية. الفقرة الإجرائية الثانية من (القرار) 2254 تطالب المبعوث الخاص بعقد المفاوضات الرسمية بشأن عملية الانتقال السياسي». وستتركز المحادثات على ثلاث مجموعات من القضايا التي يفوض القرار 2254 دي ميستورا بالتوسط فيها وهي إقامة نظام حكم يتسم بالصدقية والشمول وعدم الطائفية وعملية لصياغة دستور جديد وإجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأممالمتحدة. ومن المقرر أن تستمر المفاوضات إلى الرابع من الشهر المقبل، بحيث يقوم المبعوث الدولي وفريقه بإجراء مفاوضات غير مباشرة بين المشاركين إزاء بنود القرار 2254. ويقود الديبلوماسي المخضرم بشار الجعفري وفد الحكومة السورية إلى مفاوضات جنيف، فيما اختارت المعارضة طبيب القلب نصر الحريري، العضو في الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية رئيساً لوفدها، والمحامي محمد صبرا كبيراً للمفاوضين. يشكل الجعفري (61 عاماً) أبرز وجوه الديبلوماسية السورية، ما يفسر إطلاق تسمية «أسد الديبلوماسية» عليه في دمشق، على حد تعبير صحافي مطلع في العاصمة السورية. ترأس الجعفري كل وفود الحكومة السورية إلى جنيف وهو المتحدث الوحيد باسمها. ولطالما كان مدافعاً شرساً عن النظام السوري منذ اندلاع النزاع في العام 2011، في أروقة الأممالمتحدة كما على المنابر الدولية، واستمات في نفي كل التهم الموجهة إلى حكومته، خصوصاً تلك المتعلقة بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وأبرزها الهجوم بالأسلحة الكيماوية في الغوطة الشرقية في ريف دمشق في العام 2013، ما تسبب بمقتل المئات. ويعرف الجعفري بدهائه الديبلوماسي وحنكته بعدما تمرس طويلاً في السلك الديبلوماسي منذ التحاقه في العام 1980 بوزارة الخارجية السورية. وشغل أول منصب له خارج البلاد في باريس كملحق ديبلوماسي وتدرج في مناصب عدة حتى تعيينه منذ العام 2006، مندوب سورية الدائم لدى الأممالمتحدة في نيويورك. وقال ديبلوماسي في مجلس الأمن الدولي في وقت سابق، إن «تحليلات الجعفري غير القابلة للنقاش حول الوضع في سورية تجعل من الصعب التحاور معه». وأضاف: «أداؤه المثير للجدل في مجلس الأمن لا يساعد على تغيير النظرة إليه على اعتبار انه متحدث باسم الأسد أكثر منه ديبلوماسي». ويجيد الجعفري الخطابة بفصاحة وطلاقة إلى حد اضطر مترجمون معتمدون في الأممالمتحدة في جولات التفاوض السابقة إلى الطلب منه مراراً إعادة تلاوة جمل لفهمها جيداً قبل ترجمتها إلى الإنكليزية. وبادر في مرات عدة إلى التدخل لتصويب الترجمة أو حتى ترجمة العبارة بنفسه. ويلم الجعفري المتزوج من سيدة إيرانية، بلغات عدة بينها الفرنسية والإنكليزية والفارسية، انطلاقا من خلفيته الأكاديمية وشهاداته، وبينها دبلوم دراسات عليا في الترجمة والتعريب ودكتوراه في العلوم السياسية من جامعة السوربون في باريس. وانطلاقاً من مكانته لدى النظام السوري الذي يتعرض منذ العام 2011 لانتقادات الدول الغربية والمنظمات الحقوقية، قيدت الولاياتالمتحدة منذ آذار (مارس) العام 2014 حركته، فلم يعد يحق له التحرك سوى في قطر لا يتجاوز 40 كيلومتراً حول مدينة نيويورك. وإذا كانت مشاركة الوفد السوري في جولات التفاوض السابقة تمت وسط ضغوط دولية قوية، روسية وأميركية تحديداً، إلا أن الجعفري يتوجه هذه المرة إلى جنيف على وقع سلسلة انتصارات ميدانية حققها الجيش النظامي السوري وحلفاؤه، كان آخرها السيطرة على مدينة حلب في كانون الأول (ديسمبر) في ضربة قاضية للفصائل المعارضة. أما الحريري (40 عاماً)، فشارك في جولات المفاوضات الأخيرة في جنيف في عداد الوفد الاستشاري. ويقول عارفوه إنه على اطلاع عن كثب على ملفات التفاوض كافة. والحريري طبيب قلب يتحدر من مدينة درعا (جنوب) التي شهدت أولى التظاهرات السلمية ضد نظام الأسد في آذار2011، قبل تحولها نزاعاً دامياً تسبب بمقتل اكثر من 310 آلاف شخص وبدمار هائل في البنى التحتية. وشكلت انطلاقة الحركة الاحتجاجية ضد النظام نقطة تحول في مسيرة الحريري، الذي كان قد تنقل قبل ذلك في وظائف عدة، أبرزها رئاسة قسم الأطباء في مستشفيات في درعا ودمشق. ومنذ العام 2011، انخرط في النشاطات الإغاثية والطبية، خصوصاً في درعا ثم الأردن، وانضم إلى عضوية الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية. يتقن الحريري اللغة الإنكليزية تحدثاً وكتابة. وفي مواجهة الجعفري، لا تبدو مهمته سهلة، على رغم أنه معروف بهدوئه ودقته وقدرته على تحمل الضغوط، كما يقول عارفوه. ويقول قيادي في الائتلاف «لديه قدرات حوارية، ويتمتع بذكاء حاد وحيوية مطلقة». ويصفه أحد الناشطين المعارضين بأنه «ديبلوماسي جداً، لكنه يكون أحياناً أشبه بكتلة نار متنقلة». لا يختلف محمد صبرا، المحامي ورجل القانون المتمرس، في طباعه عن الحريري. وليست المرة الأولى التي يذهب فيها إلى جنيف، إذ كان من ضمن الوفد التقني في العام 2014 وفي عداد الوفد المفاوض العام الماضي، وهو بالتالي مطلع على النقاشات التي تمت تحت سقف الأممالمتحدة. وسبق لصبرا أن تولى مهمات استشارية وقانونية عدة داخل «الائتلاف» المعارض وشغل منصب المستشار القانوني لأكثر من رئيس فيه. كما أشرف على صياغة وثائق قانونية عدة صادرة من «الائتلاف» انطلاقاً من خلفيته الأكاديمية، إذ يحمل شهادة ديبلوم في الدراسات المعمقة في القانون العام، وهو متخصص في القانون الخاص. في نهاية العام 2014، استقال صبرا من الهيئة القانونية ل «الائتلاف»، بعد مشاركته في تأسيس حزب «الجمهورية» المعارض في نيسان (أبريل) من العام ذاته في إسطنبول. ويقيم صبرا في دولة الإمارات العربية، وهو مقل في ظهوره الإعلامي. ويخلف صبرا في منصبه ككبير المفاوضين محمد علوش، القيادي البارز في «جيش الإسلام»، فصيل معارض نافذ في ريف دمشق، والذي لطالما وصفه الجعفري ب «الإرهابي»، رافضاً التحاور معه. لكن علوش لا يزال عضواً في وفد «الهيئة». آمال ضعيفة مع استئناف مفاوضات جنيف باريس - أ ف ب - تستأنف المفاوضات بين الحكومة والمعارضة السوريتين الخميس في جنيف وسط آمال ضعيفة في أن تنجح بوقف النزف المستمر منذ ست سنوات في سورية وفي ظل استمرار العنف على الأرض ووجود هوة شاسعة بين الطرفين وغموض في الموقف الأميركي. وتنطلق هذه الجولة، وهي الأولى بعد فشل المفاوضات الأخيرة بين كانون الثاني (يناير) ونيسان (أبريل) 2016 في المدينة السويسرية في رعاية الأممالمتحدة، ووسط تصعيد للعنف كسابقاتها. وتقصف القوات الحكومية منذ أيام مواقع الفصائل قرب دمشق وفي محافظة حمص (وسط)، الأمر الذي اعتبرته المعارضة «رسالة دموية» لنسف المفاوضات. غير أن المفاوضات تستأنف وسط ظروف ميدانية مختلفة عن الوضع في نيسان 2016، مع استعادة قوات النظام مدينة حلب بكاملها بعدما ظل الشطر الشرقي منها لسنوات معقلاً بارزاً للفصائل المقاتلة المعارضة للنظام. وحظي هذا الأخير في معركة حلب بدعم عسكري قوي من حليفتيه روسياوإيران. وباتت سيطرة المعارضة تقتصر على 13 في المئة من الأراضي السورية، وفق تقديرات. وفي التغييرات الميدانية أيضاً، أصبحت تركيا الداعمة المعارضة بحكم الواقع، طرفاً في المعارك منذ إطلاقها حملة عسكرية برية في شمال سورية، ضد المتطرفين من جهة والأكراد من جهة أخرى. في موازاة ذلك، قامت أنقرة بتقارب مع موسكو، الحليفة الثابتة للنظام السوري لترعى معها وطهران وقفاً لإطلاق النار أعلن في أواخر كانون الأول (ديسمبر)، لكنه هش للغاية وتقطعه بانتظام خروقات واسعة، ويستمر تساقط الضحايا. وأعلن المبعوث الدولي إلى سورية ستيفان دي ميستورا أنه ليس «متوهماً» في شأن المفاوضات، وذلك أثناء جلسة نقاش حول سورية الأحد في مؤتمر ميونيخ للأمن. غير أنه قال: «حان الوقت لكي نحاول من جديد»، لافتاً إلى أن الظروف تبدلت في ظل التقارب بين موسكو، حليفة دمشق، وأنقرة الداعمة المعارضة. وتسعى الأممالمتحدة هذه المرة إلى جلوس الطرفين إلى طاولة واحدة، بحسب مصادر ديبلوماسية قريبة من المحادثات. وكان التفاوض خلال الجولات السابقة غير مباشر، إذ كان وفدا التفاوض يتوجهان إجمالاً إلى الوسيط الدولي، ولا يتحادثان مباشرة. ويرأس وفد النظام السوري السفير الدائم في الأممالمتحدة بشار الجعفري الذي سيكون أيضاً المفاوض الأساسي عن فريقه، ويرأس وفد المعارضة نصر الحريري، بينما سيكون محمد صبرا كبير المفاوضين. ويفترض تشكيل مجموعات عمل لبحث المواضيع الثلاثة الواردة في خريطة طريق للحل تضمنها قرار الأممالمتحدة 2254 الصادر في آخر 2015. وذكر دي ميستورا أن خريطة الطريق تنص على «حكومة ذات صدقية تضم جميع الأطراف، ودستور جديد يضعه السوريون لا أطراف خارجية، وإجراء انتخابات بإشراف الأممالمتحدة، يشارك فيها اللاجئون السوريون». ووسط كم من المواضيع التي تحتاج إلى بحث في العمق، ترتدي مسألة «الانتقال السياسي» معنى مختلفاً تماماً لدى كل من الطرفين. وقال رئيس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة» السورية أنس العبدة في ميونيخ: «سنذهب إلى جنيف لمناقشة حل سياسي»، لكنه أكد أنه لن تكون ممكنة تسوية أي مشكلة «طالما أن الأسد في السلطة». أما الأسد فكرر موقفه الثابت منذ بداية الحرب، مؤكداً أن جميع الفصائل المعارضة «إرهابية» وأنه يتمتع بتأييد شعبي لاستعادة «كل شبر» من الأراضي السورية وصناديق الاقتراع وحدها كفيلة بتقرير مصيره. ووسط هذه الهوة الشاسعة بين الطرفين، تتحول الأنظار إلى القوى الإقليمية والدولية، صاحبة النفوذ الكبير في مسألة إنهاء النزاع. وأدى التقارب التركي - الروسي إلى تغيير المعطيات وفق دي ميستورا الذي يرى ضرورة في «دعم الواقعية السياسية عندما تسير في الاتجاه الصحيح». واعتبر مصدر ديبلوماسي فرنسي أن «من مصلحة روسيا الخروج من هذا النزاع الطويل، فيما تبدي إيران دعماً أعمى لبشار» الأسد. لكن المجهول الأكبر يبقى موقف الولاياتالمتحدة من الشق السياسي في الملف السوري. ولم يصدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي طلب من البنتاغون خططاً جديدة قبل نهاية شباط (فبراير) لمكافحة تنظيم «داعش»، أي مؤشر حتى الساعة إلى المشاركة في جهود حل النزاع الذي أدى إلى مقتل أكثر من 310 آلاف شخص ونزوح الملايين. واكتفى الموفد الأميركي الخاص للتحالف الدولي بريت ماكغورك في ميونيخ بالقول: «سنكون في غاية الأنانية في ما يتعلق بحماية مصالحنا والعمل من أجلها»، مذكراً بأن أولوية بلاده هي «تدمير داعش». لكن رئيس منظمة «هيومن رايتس ووتش» كينيث روث رد متعجباً إلى جانبه: «ليكن الله في عون السوريين إذا كان عليهم انتظار دونالد ترامب لطرح حل!».