أعداد كبيرة جداً من المواطنين الجنوبيين يجمعون حاجياتهم وأمتعتهم على عجل ويركبون عربات نقل يتوجهون بها إلى جنوب السودان في رحلة طويلة شاقة. هذا المشهد المتواصل في العاصمة السودانية الخرطوم، وفي مدن الشمال، يعكس مأسوية الوضع السوداني، فهؤلاء الجنوبيون الراحلون تدفقوا إلى هذه المناطق الشمالية على مراحل منذ نشوب الحرب الأهلية في جنوب السودان عام 1983 وربما قبل ذلك لأن التاريخ الحقيقي لنشوب الحرب في دورتها الأولى كان عام 1955، وهناك أعداد كثيرة من هؤلاء الجنوبيين ولدوا وعاشوا ودرسوا في الخرطوم ومدن الشمال ولا يعرفون أرضاً سواها، كثيرون منهم ارتبطوا بأصدقاء وجيران وأعمال ويحملون مشاعر بعضها إيجابي وبعضها الآخر ملتبس أو متناقض تجاه اخوتهم في الشمال، وكثيرون منهم لم يكونوا يودون أن يعودوا ويتركوا حياتهم التي اعتادوا عليها، والدليل أنهم لم يعودوا الى الجنوب طيلة الخمس سنوات الماضية بعد توقيع اتفاقية السلام. لا يملكون شيئاً هناك. وكثيرون منهم سيصلون بشق الأنفس إلى مناطقهم وقراهم التي دمرتها الحرب. هناك عليهم أن يبدأوا حياتهم من الصفر. وقد يكونون عبئاً حقيقياً على حكومة الجنوب إذا لم تكن أعدت العدة لاستقبالهم. ما دفعهم إلى الرحيل أولاً هو رغبة حكومة الجنوب أن يكون التصويت للاستفتاء على تقرير المصير في الجنوب لئلا يتم أي تلاعب فيه في الشمال، وثانياً، وهو الأهم، هو هذه الأجواء المسمومة الناجمة من تصريحات بعض قيادات حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأن هؤلاء الجنوبيين لن يبقى لهم أي حق في الخرطوم إذا تم الانفصال، بل لن يكون لهم حق العمل أو الإقامة أو التجارة أو حتى الحصول على حقنة الدواء، على حد تعبير القيادي في المؤتمر الوطني وزير الإعلام السوداني كمال عبيد. كان الوجوم بادياً على وجوه هؤلاء السودانيين الجنوبيين الراحلين، كأنهم سائرون إلى المجهول، تماماً مثل وطنهم السودان الذي ربما لن يبقى بعد قرابة الشهرين إذا ما تم التصويت لمصلحة الانفصال أكبر الدول العربية والإفريقية. وليس خيار الانفصال هو وحده الخيار الأسوأ الذي يواجه السودان اليوم، فهناك الكثير من المؤشرات والمخاوف والتحذيرات من داخل السودان وخارجه ألا يكون هذا الانفصال سلمياً، وأن يتم في ظل التعقيدات القائمة انفجار الأوضاع وتجدد الحرب بين الشمال والجنوب، والتي لن تكون في حال تجددها هذه المرة مثل سابقتها، لأنها ستكون عندئذ بين جيشين نظاميين في حال سباق تسلح، وليس كما كان الوضع في السابق بين جيش وحركة تمرد. كما يحذر المراقبون من أن الحرب في حال نشوبها هذه المرة لن تقتصر كما في السابق على حدود الجنوب وحده، وأنها ستمتد هذه المرة إلى الشمال الذي يعاني تعقيدات بسبب الحرب في دارفور، وأوضاع المناطق الثلاث بين الشمال والجنوب، حيث لم يتم التوصل إلى حل في شأن منطقة أبيي المتنازع عليها. وهناك أيضاً ما يسمى بالمشورة الشعبية في منطقتي جبال النوبة وجنوب النيل الأزرق، وهي مسألة مختلف على فهمها بين شريكي الحكم في السودان: المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان. تزيد الأوضاع سخونة في السودان يوماً بعد آخر مع بدء العد التنازلي لاستفتاء تقرير المصير في الجنوب، الذي أصبح موعداً مقدساً لدى أبناء الجنوب، وتؤكد المؤشرات أن التصويت فيه سيرجح خيار الانفصال، بعد الشحن الضخم الذي قامت وتقوم به حكومة الجنوب وقيادات الحركة الشعبية لمصلحة الانفصال، وهو الأمر الذي أعلنت انحيازها له قيادات بارزة منها رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت والأمين العام للحركة الشعبية باجان أموم، وقد سعت حكومة الجنوب لتوحيد الجنوب كله خلف هدف واحد هو عقد الاستفتاء في موعده، ومن أجل ذلك عقدت مؤتمراً في جوبا أخيراً دعا إليه سلفاكير جميع القيادات والأحزاب الجنوبية بمن فيهم مناوئوه السياسيون وخصومه العسكريون، واتفق الجميع على ترتيبات داخل الجنوب بعد عقد الاستفتاء في موعده، وتشكيل حكومة انتقالية بعد الاستفتاء وإجراء انتخابات، وعلى حرية الدعوة للوحدة أو الانفصال في الاستفتاء. وما يبدو من سعي للوحدة في الجنوب على رغم الكثير من التحديات الصعبة في هذا المضمار، وهي تحديات أمنية واجتماعية وسياسية واقتصادية، لا تقابلها في الشمال السوداني مساع مماثلة، بسبب الانقسامات الحادة، ومعظم الأحزاب الشمالية يحمّل المؤتمر الوطني مسؤولية ما يواجه السودان من احتمالات انقسام أو تفكك، أو يحمّل الشريكين والمجتمع الدولي مسؤولية اتفاق سلام منقوص قصر الأمر على طرفين، وضيّع، على رغم وقفه للحرب، فرصة نادرة ووحيدة وأخيرة لتوحيد السودان. قبل أسابيع من استفتاء تقرير المصير الذي أقرته اتفاقية السلام السودانية قبل خمسة أعوام بدا الجميع أنهم يفيقون على واقع مزعج، وكأنه لم يكن معلوماً لديهم، وبدت الساحة السودانية في الشمال على وجه أخص مرتبكة، والمؤتمر الوطني يؤكد أن الوحدة قادمة ثم يرى أن الانفصال آت، والتصريحات تخرج متضاربة، مرة تدعو لتأجيل الاستفتاء وثانية تؤكد أنها ستلتزم بالموعد، مرة تقول أنه يجب الاستعداد للحرب وثانية تؤكد أن الانفصال سيكون سلمياً، وحجم الضغوط الخارجية على المؤتمر الوطني هائلة لتنفيذ الاستفتاء في موعده، والزيارات من الوفود الدولية والإقليمية تتوالى للضغط أو لتقريب وجهات النظر بين الشريكين، والتحذيرات تتوالى أيضاً من البيت الأبيض والرئيس الأميركي أوباما بأن ملايين القتلى سيسقطون في السودان إن لم يتم الاستفتاء في موعده، وواشنطن ترفع جزرة أو حوافز غير محفزة للخرطوم إن مضت لعقد الاستفتاء في موعده، وتشهر في وجهها عصا غير غليظة إن هي توانت أو عرقلت الاستفتاء، بينما يمضي الجنوبيون مدعومين بقدر هائل من السند الخارجي الذي تتباين أهدافه ومراميه، ومدعومين كذلك بقدر أكبر من الغضب والمشاعر السلبية التي لا تعبر فقط عن مرارات عقود كاملة عاشوها من الحرب والدمار والتشرد، بل تؤججها تصريحات غير مسؤولة وصحف وأقلام مسمومة تبث الكراهية والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد. وستبقى الأوضاع في السودان مفتوحة على كل الاحتمالات، وهو الآن في منتصف طريق بين السلام والحرب، والعوامل التي ترجح السلام كثيرة، بينما هناك أطراف كثيرة لا ترغب في هذا السلام الذي لن يكون في مصلحتها، وهذه الأطراف قد تختلف في ما بينها وتتباين أهدافها لكنها في النهاية قد تلتقي في الوسيلة، ومن بين هؤلاء أطراف في الحكم بالشمال ترى أن أي تسوية يقبلون فيها بانفصال سلمي سلس للجنوب ستكون حتماً لغير مصلحتهم، فهم يرون أنهم إذا سلموا بانفصال الجنوب بسهولة فإن المجتمع الدولي سيستدير إليهم بعد ذلك للمطالبة بتنفيذ استحقاقات المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت أوامر باعتقال الرئيس السوداني عمر البشير بتهمة ارتكاب إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور، وقضية المحكمة ستظل معرقلاً أساسياً أمام تسوية سلمية للأوضاع في السودان،لأن حزب المؤتمر الوطني الحاكم لا يأمن حتى أن يكون رئيسه الرئيس البشير والوزير أحمد هارون آخر المدانين في هذه القضية في ظل الحديث عن قوائم تطاول معظم قياداته، وهناك أطراف تخشى أن يسعى المؤتمر الوطني أو أطراف منه إلى تفجير الأوضاع في الجنوب قبيل موعد الاستفتاء، تدعمه اتهامات جنوبية للمؤتمر الوطني والجيش السوداني بالحشود على الحدود مع الجنوب استعداداً لحرب قادمة، وهو ما دفع الأممالمتحدة للإعلان عن إعتزامها اقامة منطقة عازلة بين الشمال والجنوب، تلبية لطلب رئيس حكومة الجنوب سلفاكير، وهو الأمر الذي يعاد النظر فيه على مايبدو، لأنه ليس حلاً عملياً أو ناجعا، ليس فقط لأنه لم يتم ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، بل لأن هذه الحدود طويلة جداً تصل إلى نحو ألفي كيلومتر، تصعب على أي قوات حراستها من دون تسوية سلمية، والسودان الذي يضم الآن أكبر قرابة الأربعين ألف جندي، وهي أكبر قوات لحفظ السلام في العالم، يوجد منهم نحو عشرة آلاف و600 جندي كقوات لحفظ سلام بين الشمال والجنوب وقرابة 26 ألفاً آخرين في دارفور تحت مسمّى القوات الهجين أو الدولية - الإفريقية المشتركة والباقي في جبال النوبة وغيرها، كل هذا العدد من القوات عاجز في كثير من الأحيان أن يفعل شيئاً في دارفور واحترقت أبيى نفسها قبل عامين من دون أن يفعلوا شيئاً يذكر، بل ان وجنودهم يتعرضون لاعتداءات متفرقة من حين الى آخر، وهم يعملون كقوة حفظ سلام وغير مفوضين بمهام قتالية، وفي حال رغب مجلس الأمن في زيادة عددهم أو توسيع التفويض ليكون بموجب الفصل السابع أو أن يمنحهم مهام أوسع ومدى زمنياً أطول، فإن ذلك سيقابل بالرفض من الحكومة السودانية التي تراه ماساً بالسيادة الوطنية، وربما يثير مشكلات عدة. الأطراف التي تفضل الحرب الآن قد لا تكون فقط من المتشددين داخل الحكومة السودانية كما تتهمهم بعض الجهات، وإنما أيضاً أطراف معارضة لهذه الحكومة لا ترضيها تطورات الأوضاع التي يرونها ستمزق السودان لا محالة، وهؤلاء يرون أن الحرب قادمة في حال الانفصال العدائي بين دولتين عدوتين في الشمال والجنوب، ويفضلونها اليوم قبل أن يحدث انفصال الجنوب ويؤدي إلى واقع جديد، وربما هذا سبب اطلاق جبهة المعارضة السودانية العريضة في لندن أخيراً، والتي يتزعمها علي محمود حسنين نائب رئيس الحزب الاتحادي السوداني، وتضم عدداً من قيادات المعارضة والحركات المسلحة في دارفور بهدف إسقاط النظام السوداني، أي حزب البشير، ومع هؤلاء تقف أطراف جنوبية تنظر بقلق لما يجري من ترتيبات في الجنوب وتراه لغير مصلحتها. توارى الآن خيار الوحدة في السودان الذي كان أملاً ومخرجاً آمناً للسودانيين على اختلاف انتماءاتهم، بسبب تضييع الفرص التي كانت متاحة، وأيضاً بسبب عدم الاتفاق على صيغة لهذه الوحدة، وأصبح حتى خيار الانفصال السلمي صعباً، ولن يكون حلاً للمشكلات في الشمال أو الجنوب، والآن تلوح نذر الحرب التي تستدعي تحركاً استثنائياً لتداركها، لأن عواقبها ستكون وخيمة على السودان والمنطقة العربية والقارة الإفريقية، ولا ينبغي أن تكتفي الجهود المبذولة بتطمينات من هذا الطرف أو ذاك، بل أن يكون العمل منصباً على نزع عوامل التأزم وحل القضايا العالقة، وهي كثيرة وتجعل من قيام الاستفتاء في موعده على حد تعبير رئيس مفوضية الاستفتاء بمثابة معجزة، لأن ما كان ينبغي عمله في 40 شهراً مطلوب الآن عمله في شهرين فقط، والأجدى هو البحث عن صيغة لحل شمولي لقضايا السودان المتشابكة. * كاتبة مصرية