يد تحمل البندقية وأخرى على «الكيبورد» هذه هي حال شبان قريتي «قراضة» و «المرزوح» في جبل صبر المطل على مدينة تعز اليمنية. فالذي لا يشارك منهم في القتال الناشب بين القريتين «يحارب» عبر الشبكة العنكبوتية خصوصاً مواقع التواصل الاجتماعي وأولها «فايسبوك». «مجموعة من الأشرار يتغذون من استمرار الخلاف ويبتزون المواطنين» بهذه العبارة يصف أحمد علي جامل المدير السابق لمديرية الموادم، شبان القريتين الذين يخوضون منذ 17 عاماً دورات قتال متقطع على خلفية نزاع على عين ماء أسفر حتى الآن عن قتل وجرح العشرات بينهم أطفال ونساء وتشريد عدد من الأسر. وأخفقت الجهود الرسمية والشعبية التي بذلت خلال السنوات الماضية لاحتواء خلاف القريتين اللتين تطلان على مدينة تعز، العاصمة الثقافية للبلاد. ولا تزيد المسافة بين منطقة الصراع وحي المجلية الراقي عن 3 كم ما يجعل المدينة كلها تحت رحمة الجماعات المسلحة بحسب ما يقول جامل. ويرشح من الروايات وتقرير لجنة تقص برلمانية، وجود تدخلات من خارج السلطة القضائية، أدت إلى حرف القضية عن مسارها لتأخذ طابعاً عنيفاً. وتتهم الأحزاب اليمنية بتلويث الفضاء العام وتقويض الأعراف القبلية الإيجابية». فالأحزاب تفتقر للثقافة المدنية ولا تعدو أن تكون مجرد غطاء للقوى العسكرية النافذة» يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة صنعاء فؤاد الصلاحي. ومعلوم أن معظم القيادات الحزبية تخرجت في كليات عسكرية أو عملت في أجهزة أمنية وكان يمكن أن تستفيد من بعض النواحي الإيجابية في التقاليد القبلية. ويقدم نزاع «قراضة» و «المرزوح» نموذجاً للكيفية التي تتحول فيها الخلافات المدنية إلى صدامات سياسية مسلحة وأكدت مصادر متطابقة ل «الحياة» وجود قوى سياسية تدفع باتجاه تأجيج النزاع ومد أطرافه بالسلاح وأفاد عدد من أبناء المنطقة امتلاك المقاتلين أسلحة ثقيلة بينها «صواريخ لو». ودعا أحمد جامل إلى سحب السلاح الثقيل كخطوة أولى نحو الحل. ويعترف محمود الجنيد عضو اللجة الرئاسية المكلفة حل النزاع حاليا بأن «الحرب الباردة بين الأطراف الحاكمة « ساهمت في تقويض الاستقرار. وتمددت نزعة العنف لتصل إلى مناطق مثل تعز وحضرموت والحديدة التي طالما نظر اليها بوصفها روافع مفترضة للحداثة، لكنها صارت «لطخة بارود» ونسخة حاشدية (نسبة إلى قبيلة حاشد) التي يتصارع فيها فئة السادة (الأشراف) وشيوخ القبائل على السلطة منذ نصف قرن، وفق قول مختار احمد. ويرى الصلاحي أن الأجيال الجديدة أكثر عنفاً من جيل الآباء، مرجعا ذلك إلى «الأيديولوجيات المتطرفة» والتنشئة السياسية أولاً وإلى ضعف الدولة وتفشي الفقر والبطالة ثانياً. وتحدث الصلاحي وآخرون عن صراع تشهده تعز بين أنصار حزب الإصلاح الإسلامي السني والحوثيين (الذراع العسكرية للأحزاب الشيعية )، موضحاً أن القوى السياسية المتصارعة تسعى إلى بسط سيطرتها على أكثر من محافظة كورقة ضغط. ويقول الجنيد أن اللجنة وضعت يدها على حل نهائي للنزاع ينهض على تراضي الأطراف نفسها وتعويض الضرر. إلا أن مصادر شككت بقدرات اللجنة الرئاسية. ويقول فهد سلطان من قرية «المرزوح» أن اللجنة تكرر أخطاء سابقاتها مقللاً من إمكان نجاحها في تثبيت سلام دائم. وتحدث محمود الحميدي من قرية «قراضة» عن مظالم تسبب فيها نظام الرئيس السابق، موضحاً أن مياه قراضة أخذت بقوة المدفع والدبابة، لافتاً إلى حملة عسكرية قادها نهاية القرن العشرين قائد عسكري مقرب من الرئيس السابق علي عبد الله صالح لإجبار القرية على قبول حل غير عادل فيما يؤكد فهد سلطان المنتمي إلى «المرزوح « أن قراضة لا تملك أي مستند قانوني يؤكد أحقيتها بالماء». ووفق الصلاحي فإن المسؤولية نقع على الشبان المقاتلين والأحزاب والسلطة المحلية. فيما تحدث الباحث جازم سيف عن جماعات تجد في إشعال النزاعات مصدراً لبيع السلاح. وتحفظ الجنيد عن الإفصاح عن طبيعة الضمانات التي ستتخذها اللجنة الرئاسية لعدم تكرار النزاع. ويقدم مؤتمر الحوار الوطني الذي عقد برعاية إقليمية ودولية نموذجاً لعدم جدية الأطراف اليمنية في التعايش وإدارة خلافاتها سلمياً، فعلى رغم النتائج النظرية الجيدة التي خرج بها المؤتمر إلا أن النزاعات المسلحة بين القوى السياسية لم تتوقف ما استدعى بمجلس الأمن تشكيل لجنة تحقيق. ويتفق سلطان وجامل على أن المقاتلين من القريتين باتوا يشكلون قوة يصعب السيطرة عليها. وكانت الثورة الشبابية التي اندلعت في 2011 جذبت كثيراً من رجال القبائل الذين تخلوا عن سلاحهم وانضموا إلى ساحات الاحتجاج. ومع مقتل نحو 50 متظاهراً في آذار (مارس) من العام نفسه وانقسام الجيش تحول الطابع السلمي للثورة إلى قتال عنيف طاول الرئيس السابق وكبار معاونية، كما تعرضت ساحة الحرية في تعز للحرق ما أدى إلى مقتل وإصابة العشرات من المحتجين. وما انفكت القوى السياسية تتبارى في توزيع السلاح وتجنيد مناصرين حتى صار الانخراط في الجماعات المتصارعة مصدر دخل للشبان العاطلين من العمل وفق قول الناشط أحمد طه قايد. والحال أن الدولة والأحزاب في اليمن باتت قبيلة جديدة تخلو من القيم الإيجابية للقبيلة التقليدية. وأكدت أطروحة جامعية للصلاحي أن الاستغلال السياسي للقبيلة يضعف التعددية السياسية ويقوض قيم الحوار سواء بين الأحزاب أم في الحزب الواحد، ولعل من المفارقات أن يلجأ الرئيس التوافقي نفسه إلى تحكيم القبلية.