كان الطردان الملغومان على مرأى كثيرين في أكثر من مرة. فمرتان تم وضع قنبلة على متن طائرة ركاب. وفي إحدى المرات تأخرت السلطات بضع دقائق، ولم يعد بمقدورها منع إقلاع طائرة على متنها قنبلة لتتجه إلى وجهتها التالية. وتدل المطاردة التي سرد تفاصيلها لوكالة «أسوشيتد برس» مسؤولون في الولاياتالمتحدة وبريطانيا واليمن وألمانيا ودولة الإمارات العربية المتحدة على أنه حتى حين تكون الأنظمة العالمية لمكافحة الإرهاب في كامل استعدادها، فإن منع وقوع هجوم إرهابي يصبح في الغالب محنة مثيرة للرعب. وبالنسبة إلى «القاعدة»، تمثل قنبلتا الطردين الجويين تطويراً كبيراً للقنبلة الصغيرة التي لم تنفجر في سراويل راكب نيجيري على متن طائرة كانت في طريقها إلى الولاياتالمتحدة في عيد الميلاد الماضي. هذه المرة زاد صانعو القنبلة حجم المتفجرات أربعة أضعاف. وبدلاً من الاعتماد على انتحاري ليقوم بإشعال زناد التفجير، قام صانع القنبلة بتوصيل كل من الطابعتين بأسلاك موصلة بالمتفجرات بحيث تنفجر كل منهما باستخدام نظام المنبّه الموجود في جهازي هاتف نقال تم توصيل كل منهما بالمتفجرات. وتم توصيل كل من الهاتفين بحقن مملوءة ب «أزايد الرصاص»، وهي مسحوق يتطلب شحنة كهربائية ضئيلة لينفجر. وملئت عبوتا الحبر في كل من الطابعتين بكمية من مادة PETN المتفجرة، وهي مادة صناعية حين يتم الكشف عليها بالأشعة السينية فإنها تبدو مثل مسحوق الحبر الذي يوجد عادة داخل الطابعات. وتستخدم مادة PETN في تشييد المباني الضخمة، وهي مستقرة بحيث تستطيع تحمل حركة الطيران عبر المحيط الأطلسي، لكنها في الوقت نفسه هشة جداً إذا تم تحريكها بتفجير صغير. ويقول خبراء المتفجرات إن منبه جهاز الهاتف النقال ربما كان سيرسل شحنة كهربائية إلى الحقنة، فيؤدي ذلك إلى تسخين أسلاك التوصيل وبالتالي إشعال «أزايد الرصاص»، وبدوره سيؤدي ذلك إلى تفجير مادة PETN. ويعتقد مسؤولو مكافحة الإرهاب الأميركيون أن تلك القنبلة من صنع أكبر صانعي المتفجرات في تنظيم «القاعدة» في اليمن، وهو إبراهيم بن حسن عسيري الذي ورد اسمه في التحقيق في مخطط تفجير طائرة عيد الميلاد. قام موظفو «يو بي اس» و«فيديكس» بالكشف على الطردين في اليمن بحسب مسؤولين أميركيين تحدثا – مثل معظم الأشخاص الذين تحدثت إليهم «أسوشيتد برس» – بشرط عدم كشف هويتيهما، لأنهما ليسا مخوّلين التحدث إلى الصحافيين. ويتم الكشف عن طرود البريد السريع في اليمن يدوياً، طبقاً لما قاله أحد المسؤولين. ألقى الموظفون نظرة على محتويات الطردين لكنهم لم يفحصوا ما بداخل كل من الطابعتين. وسرعان ما تم القيام بالإجراءات اللازمة لشحن الطردين لتسليمهما إلى العنوانين المذكورين على كل منهما. لقد كان هناك خلل في أول الخطوط الدفاعية في نظام الشحن الجوي، إذ إن الولاياتالمتحدة لا تقوم عادة بتفتيش الطرود البريدية الدولية إلا بعد وصولها إلى البلاد، وتعتمد على شركات الشحن للقيام بالكشف عن تلك الشحنات قبل وصولها إلى الأراضي الأميركية. كان العنوانان المكتوبان على الطردين يشيران إلى مكانين سبق أن شغلهما معبدان يهوديان في شيكاغو. وكتب في المكان المخصص لاسم المرسل إليه اسمان لشخصيات من عهد الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش الإسبانية، وهي عهود شهدت حكايات عن اضطهاد المسيحيين للمسلمين. ويعتقد المسؤولون – بسبب ذلك – أن «القاعدة» ربما لم تكن تأمل قط بتسليم الطردين إلى المرسل إليهما، وإنما كانت تأمل عوضاً عن ذلك بوقوع انفجار على متن طائرة في الجو. تم تسليم الطردين للشحن في اليمن يوم الأربعاء 27 تشرين الأول (أكتوبر). وشحنت القنبلة التي سلمت إلى مكتب شركة «فيديكس» على متن طائرة ركاب قطرية تتسع ل 144 راكباً. وقد غادرت صنعاء في 28 أكتوبر متجهة إلى العاصمة القطرية الدوحة. أما القنبلة التي سلمت إلى مكتب شركة «يو بي أس» فغادرت اليمن في وقت سابق مساء ذلك اليوم نفسه باتجاه كولون في ألمانيا. حين انقضى ليل الخميس وأسفر صبح الجمعة في العاصمة السعودية الرياض، تلقت محطة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي. أي. أيه) اتصالاً عاجلاً من السعودية، أُبلغت فيه بأنه تم شحن قنبلتين من اليمن إلى الولاياتالمتحدة، واحدة عن طريق شركة «يو أي اس»، والأخرى بواسطة شركة «فيديكس»، وبأن السعوديين يملكون أرقام الشحن الجوي لكلا الطردين. وقررت «اسوشيتد برس» الامتناع عن نشر بعض تفاصيل المعلومات التي قدمتها السعودية، استجابةً لطلب مسؤولين في الإدارة والاستخبارات الأميركية الذين قالوا إن من شأن نشرها تهديد الأمن القومي الأميركي. قام مسؤول كبير في ال «سي. آي. ايه.» بنقل فحوى المعلومات السعودية إلى مقر الوكالة في فيرجينيا، حيث كان الوقت هناك بداية مساء الخميس. اتصل مسؤولو «سي. آي. ايه.» بالبيت الأبيض. وقام مستشار الأمن الداخلي جون برينان بإبلاغ الرئيس باراك أوباما الذي كان في مقر إقامته داخل البيت الأبيض وقتذاك. اتصل مكتب التحقيقات الفيديرالي (اف. بي. آي.) بشركتي «يو بي اس» و«فيديكس» اللتين كانتا قد شاركتا في تمرين حكومي على أعمال مكافحة الإرهاب في آب (أغسطس) الماضي. وكان موضوع التمرين: «قنبلة مصنّعة يدوياً تجد طريقها إلى طائرة شحن». اتصلت السلطات الأميركية والسعودية بالدول الأوروبية لتحذيرها. كما تلقت وكالة الاستخبارات الخارجية البريطانية (ام آي 6) معلومات سرية من مكتبها في اليمن. كانت السلطات الأميركية تتابع من كثب معلومات استخبارية عن هجوم محتمل من ذلك القبيل منذ مطلع أيلول (سبتمبر)، طبقاً لما قاله مسؤولون أميركيون. وفي مطلع أكتوبر تلقت الولاياتالمتحدة معلومة عامة من السعوديين عن مسعى يحتمل أن تبذله «القاعدة» لإسقاط طائرات بحسب ما قاله مسؤولون استخباريون أميركيون. وفي أواخر سبتمبر أيضاً اعترضت السلطات الأميركية طرداً من اليمن يتضمن أوراقاً وكتباً وأشياء أخرى، مرسلاً إلى محل لبيع الكتب الإسلامية في منطقة شيكاغو بحسب معلومات أدلى بها مسؤول أميركي. واعتقد مسؤولو مكافحة الإرهاب آنذاك أن الطرد ربما حوى رسائل مشفرة، أو ربما كان القصد منه إقامة اتصال بحلفاء في شيكاغو. ويعتقد المحققون الآن بأن «القاعدة» أرادت فقط اقتفاء أثر الطرد، لتعرف كم من الوقت يستغرقه في الوصول إلى الولاياتالمتحدة، حتى تستطيع توقيت انفجار القنبلة بطريقة أشد فاعلية. لم يحدد المسؤول الأميركي محل بيع الكتب، بيد أن ال «اف. بي. آي.» ومصلحة الضرائب أبدتا اهتماماً ب «مؤسسة اقرأ التعليمية الدولية»، وهي مؤسسة إسلامية غير ربحية تملك محلاً لبيع الكتب في شيكاغو. وقال المدير المالي ل «اقرأ» وهاج أحمد إن مدققي مصلحة الضرائب ظهروا قبل نحو شهر لتفتيش الكتب. وحدث ذلك في أو نحو الوقت الذي تسلمت فيه المؤسسة ظرفاً عن طريق شركة «فيديكس» من شركة قالت إنها ترغب في التعامل تجارياً مع «اقرأ». وأضاف وهاج أن الشركة المرسلة تتخذ اليمن مقراً. وقبل بضعة أيام وصل عملاء ال «اف. بي. آي.» إلى مكتبة «اقرأ» ليطرحوا بعض الأسئلة عن ذلك الظرف. أضاف أحمد: «قالوا إنهم يقتفون أثر أي شيء آتٍ من تلك المنطقة». وفيما كانت الاستخبارات الأميركية متيقظة بعد تمرير المعلومات إليها، استدعى مسؤولون في السعودية مسؤول الاتصال التابع للشرطة الجنائية الاتحادية الألمانية لعقد اجتماع لبحث قضية القنبلتين. وعندما بدأ الاجتماع، بحسب مسؤول ألماني كبير، كانت الساعة الواحدة و34 دقيقة نهار الجمعة في ألمانيا، وكانت قنبلة «يو بي أس» تقبع آنذاك في مطار كولون، بانتظار إقلاع الطائرة إلى إنكلترا. سارع مسؤول الاتصال الألماني بإجراء اتصال هاتفي عاجل مع ألمانيا، وجهت السلطات للحيلولة دون إقلاع الطائرة. وحين أضحى الوقت عند الساعة الثانية و40 دقيقة بعد الظهر، أمرت الشرطة الألمانية بعدم السماح بمغادرة ذلك الطرد بأي ثمن. لكن الأوان قد فات، إذ إن طائرة الشحن أقلعت من كولون قبل ذلك ب 36 دقيقة! لم يكن ثمة ما يدعو إلى الارتياب في وجود قنبلة في ذلك المطار الألماني، إذ إن شركة «يو بي اس» تعتبر إحدى الشركات التي تُعَدُّ آمنة، بحسب ما قاله مسؤولون ألمان. لذلك لم يتم تفتيش الطرد ولا إخضاع محتوياته للكشف. الطائرة الآن في طريقها إلى وسط إنكلترا. على الأرض لم يكن المسؤولون متأكدين تماماً من أن ثمة قنبلة على متن الطائرة الآتية. وحتى لو كان الأمر كذلك، فهم لا يعرفون متى ستنفجر. الرحلة من كولون في ألمانيا إلى مطار إيست ميدلاندز في إنكلترا لا تستغرق جواً سوى 90 دقيقة. في البيت الأبيض، بدأ مستشار الأمن الداخلي برينان يجري اتصالات مع قادة أجهزة الاستخبارات الأميركية لإطلاعهم على تفاصيل المخطط. واتصل مكتب التحقيق الفيديرالي (اف. بي. آي) بالمنظمات اليهودية في منطقة شيكاغو، ووضع مكانين هناك تحت المراقبة بحسب قول مسؤول أميركي.