بعد خطوات جريئة بدأتها السعودية، في تنفيذ «رؤيتها 2030» في جوانب هيكلية وتنموية، يبدو أن الشق الديني ذو البعد السياسي يقترب من تحول هو الآخر، وفق ما رجحت مصادر مقربة من صناع القرار، كشفت عن تحرك متسارع لتفعيل رابطة العالم الإسلامي، عبر برامج وأساليب مبتكرة، بينها إعلان رجل الدين القوي الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى، «مرجعية إسلامية عالمية» تتسلح بتفويض سياسي لترجمة رؤية ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في شأن تفعيل العمق الديني لبلاده، إلى جانب ثقل المؤسسة الدينية في البلاد، بوصف العيسى أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي، وعضو هيئة كبار العلماء. وكان العيسى، الذي تدرج في السلك الأكاديمي والقضائي في بلاده حتى شغل منصب وزير العدل 2009، ورئيس المجلس الأعلى للقضاء 2012، أحدثت إصلاحاته القضائية حينئذ ضجة محلية واسعة، إلى جانب آرائه الدينية التي لا يتواطأ فيها أحياناً مع السائد محلياً من الاختيارات والفتاوى الفقهية، ناهيك عن التوجهات الاجتماعية في مثل قضايا الاختلاط، وعمل المرأة، وزواج القاصرات، وهيمنة بعض المحافظين على القضاء قبله. ومع أن الرجل، ذا الخلفية الشرعية والحقوقية، لم يلبث طويلاً في رابطة العالم الإسلامي، (مقرها مكةالمكرمة)، التي تقلد أمانتها العامة في آب (أغسطس) 2016، إلا أنه استطاع أن يحدث انطباعاً في ناحية خطاه، سواء عبر خطابه إلى قادة المنظمات الإسلامية وممثلي الرابطة الحج الماضي، أم بتحركه لإطفاء مفعول مؤتمر الشيشان، الذي أحدث هزة بين أوساط إسلامية عدة الصيف الماضي. غير أن اللافت في حال العيسى أنه، خلافاً لسياق التنديد الذي طبع المشهد بعد المؤتمر، اتجه هو مباشرة إلى غروزني، وقاد مع نظرائه الفقهاء هنالك محادثات ونقاشات عدة، أثمرت - على ما يبدو- تفاهمات ووفاقاً أنهى في الأوساط الإعلامية (مرحلياً على الأقل) حال السخط التي سادت التيار السلفي، الذي وجد نفسه بغتة خارج دائرة امتداده الطبيعي ومحيط أهل السنة والجماعة، ما قيل إنه نكاية مقصودة من الفقهاء المؤدلجين، ضد رموز السلفية الذين ظلوا في عقود خلت، مهووسين في ما يتردد بالتصنيف والإقصاء. لكن أمين الرابطة الجديد، مثلما تمكن في المهمة الشيشانية من توظيف العلاقات الجيدة بين رمضان قاديروف والأمير محمد بن سلمان، ينسج خيوط تحركاته الجديدة، هو ومنظمته بانسجام مع «رؤية السعودية 2030» التي غدت نهجاً محلياً وعالمياً تتقاطع عنده أنشطة الوزارات والمنظمات في المملكة. وفي هذا السياق أعلنت منظمة «سابراك» الأميركية، قبل أشهر أن بين المهمات التي أسند إلى العيسى الإشراف عليها، وبناء تفاصيلها، الشق الفكري في التحالف الإسلامي العسكري ضد الإرهاب، الذي أطلقه وزير الدفاع السعودي الأمير محمد بن سلمان في كانون الأول (ديسمبر) 2015، بمشاركة 41 دولة، وكان آخر من انضم إليه سلطنة عمان قبل أسابيع. وينهض المركز الفكري داخل التحالف بمكافحة الآيديولوجيا المتطرفة، بمساندة مركز الحرب الفكرية التابع لوزارة الدفاع والطيران. ومن التحركات التي أنجزها العيسى في موقعه الجديد، واعتبرت لافتة في حق فقيه ينتمي إلى المؤسسة الدينية في السعودية، لقاؤه أخيراً في لبنان ممثلين للأطياف والأديان، بما فيها الفاتيكان، في إشارة رمزية إلى أي بعد أخذ سقف السعودية يرتفع في الجانب الفكري، ويهتم بالتأثير الديني. وفي تقرير عن مجلة «هارفرد» الأميركية حول الخطوة، ذكرت أن موقع الرابطة سيمنح العيسى هامشاً واسعاً للتحرك ليؤسس لنفسه «مرجعية إسلامية عالمية» بما يتوفر لدى المنظمة من إمكانات هائلة جعلتها ذات صدى في كل موقع جغرافي يقطنه مسلمون في الدول الإسلامية والغرب والشرق، كما أنها، بوصفها منظمة مدنية غير حكومية، لديها حرية حركة أكبر، وخصوصاً أنها تمثل آلاف الدعاة والمرشدين والمؤسسات والمجامع الفقهية، بينها المجمع الفقهي الذي أسسته الرابطة نفسها، إلى جانب هيئات إسلامية، في شتى التخصصات، حملت رسالة المنظمة، المدعومة من السعودية، إلى كل الأقطار، وفق ما رشحت أيضاً «هافنغتون بوست» في نسختها الإنكليزية. لكن ذلك لا يعني أن طريق المرجعية الإسلامية مفروش بالورود، فعوضاً عن التحديات السعودية الداخلية في الشأن الفقهي والسجال الحاد في بعض الأحيان بين التيارات الإسلامية، ثمة تنافس لا يُنكر بين منظمات إسلامية عدة، مثل الأزهر، في تمثيل الرأي الإسلامي الأشمل، إلا أن إمكانات الرابطة، بانتمائها إلى السعودية (مقراً وتأسيساً)، بوصفها أرض الحرمين وفيها قبلة المسلمين وأقوى اقتصاد في المنطقة وبرزت أيضاً الآن قوة عسكرية، تجعل فرص المنظمة كبيرة في تمثيل المرجعية الإسلامية العالمية، في شخص أمينها العيسى. وكانت من مرتكزات «رؤية السعودية 2030» الثلاثة، التي أسست عليها استراتيجيتها، توظيف «العمق العربي والإسلامي» في بناء النهضة، ما يستدعي تحسين أداء الخطاب الفقهي، وتفعيل المرجعية الدينية، وفق المتغيرات المحلية والعالمية. وينظر المراقبون إلى ما بعد «عاصفة الحزم» دليلاً على أن المملكة غدت أكثر جدية في ترسيخ نفسها قوة إقليمية، تدافع ما في وسعها عن الحق العربي، وتروم توحيد جبهتهم ضد تدخلات وتهديدات أوشكت على تفكيك «بنية الدولة العربية»، ما أدى إلى وضع كثير منها في قائمة الدول المنهارة المنبوذ مواطنوها عالمياً، في حال مأسوية، كان أكثر جوانبها وضوحاً القائمة الأميركية السوداء، التي منعت مواطني أربع دول عربية من دخول أراضيها.