لا أدري لماذا – حين قررت مواصلة الحديث عن أزمة تجديد النظام العربي– برز لي فجأة من بين رفوف مكتبتي كتاب محيي الدين صبحي «عرب اليوم: صناعة الأوهام القومية» (بيروت - دار رياض الريس، 2001). كنت قرأت هذا الكتاب منذ سنوات، ولفت نظري أنه يتضمن تشريحاً قاسياً لظواهر التخلف السياسي العربي، وكان تكملة لكتاب سابق للمؤلف نفسه بعنوان «الأمة المشلولة» (دار النشر نفسها، 1997). وربما كانت الفكرة الجوهرية التي يعرضها محيي الدين صبحي والتي تحتاج إلى تأمل نقدي عميق، هي أن «الخطأ الأكبر في النظرية القومية أنها أخذت الأمة كمعطى موجود، في حين أنها فرضية تتحقق بالتطور والممارسة». وفي تعبيره عن أزمة الفكر القومي العربي يقرر أنها تظهر بوضوح حين تتعمق المقارنة بين مكونات القومية والواقع القومي. وسبق لساطع الحصري، كما يقرر، أن حدد عناصر القومية في الأرض واللغة والتاريخ والثقافة والمصالح المشتركة. وحين نظر الحصري إلى الشعوب العربية وجد أنها تمتلك هذه العناصر، فظن أن الأمة العربية موجودة على أرض الواقع، ولكنها مجزأة بفعل الأطماع الاستعمارية. ومن الأهمية البالغة أن نشير إلى أن محيي الدين صبحي يفرق تفرقة واضحة بين القومية والأمة. فهو يقول: «القومية مفهوم انثروبولوجي يدل على قوم يعيشون منذ فجر التاريخ على أرض واحدة، ويشتركون في لغة وثقافة وتاريخ ومصالح. لكن هذا لا يصنع منهم أمة...» «أما الأمة فمشروع سياسي لتغيير الواقع عبر تكامل اجتماعي، يستخدم مكونات القومية استخداماً سياسياً يؤدي إلى إنشاء الأمة – الدولة، أي الدولة القومية الحديثة التي تضم حدودها كل الناطقين بلغتها، والمنتمين إلى ثقافتها والمؤمنين برسالتها، أي كل من يدينون بالولاء ويخضعون عن رضى لسلطة دولتهم ويدافعون عنها ولا يرضون بديلاً لها». بهذه التفرقة بين القومية كمفهوم انثروبولوجي والأمة كمشروع سياسي، يمكن – في رأي محيي الدين صبحي – استقامة النظر إلى الواقع العربي، لأننا سنحصل في هذه الحالة على أداة تحليلية مطابقة للواقع، وبذلك تكون الأمة مرحلة تالية ومؤسسة عليها. هذه النظرية في التفرقة بين القومية والأمة تحتاج إلى تأمل نقدي، وقد تصلح تفسيراً لفشل محاولات تطوير العمل العربي المشترك. ذلك أنه ليس هناك خلاف – في ما نعتقد – على أن عناصر القومية متوافرة بالنسبة الى العرب، غير أن هذا لا يعني بذاته أننا أمام أمة عربية باعتبارها كياناً سياسياً له رؤية محددة للعالم، ويمتلك إرادة سياسية في مجال التعامل مع مجتمع الدول. وقد تكون محاولات تطوير العمل العربي المشترك التي لم تنقطع منذ إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945، أسلوباً مناسباً للانتقال من وضعية القومية إلى وضعية الأمة. ولكن يبقى التساؤل عن سر الفشل الدائم في تحويل مقترحات تطوير العمل المشترك، الذي قد يكون صحيحاً في مسلماته، من مجال الفكر إلى ميدان الواقع بكل تعقيداته وتشابكاته. قد يكمن هذا السر في أن مقترحات تطوير العمل العربي المشترك منذ بداياتها كانت في الواقع محاولات للقفز على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي. بمعنى أن كثيراً منها تجاهل هذا الواقع، وظن أصحابها أنه يمكنهم تطوير العمل العربي المشترك من طريقها. وللتدليل على ذلك يمكن أن نراجع محاولات تطوير العمل العربي المشترك التي وثقها في شكل ممتاز الدكتور وحيد عبد المجيد في مقالته المهمة «العمل العربي المشترك بعد قمة طرابلس الخماسية» (مجلة «آفاق المستقبل» – سبتمبر/ أكتوبر 2010). يتبين من ورقة العمل التي وضعتها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية أمام قادة الدول أعضاء اللجنة الخماسية العليا (مصر وليبيا وقطر والعراق واليمن) في اجتماعهم في طرابلس التوصل إلى مجموعة من التوصيات أهمها: إضافة كلمة «اتحاد» إلى اسم جامعة الدول العربية ليصبح الاسم اتحاد الجامعة العربية. ولنتأمل منطق هذه التوصية، وكأن تغيير المسمى سيؤدي بالضرورة إلى تغيير الوظيفة السياسية التي تقوم بها جامعة الدول العربية. وهذه التوصية – كما يقرر وحيد عبد المجيد – كانت حلاً وسطاً بين اتجاهين في شأن منظومة العمل العربي المشترك. دعا أحدهما إلى تغيير جذري عبر إعلان «الاتحاد العربي» وفق اقتراح قدمته الجمهورية اليمنية قبل سنوات لإعادة صياغة العمل المشترك من أساسه، وتشكيل مجلس أعلى للاتحاد العربي يتكون من قادة الدول، ومجلس أمة اتحادي، ومجلس تنفيذي يضم رؤساء الحكومات، ومحكمة عدل عربية، وصندوق للدعم والتطوير المشترك، وبنك تنمية اتحادي، وهيئة لتسوية النزاعات الجارية. وتعود جذور هذا الاقتراح إلى عام 1951 عندما دعت سورية إلى إنشاء اتحاد بين الدول العربية، كما قدم العراق اقتراحاً مشابهاً عام 1954. وينبغي أن نقف بالتحليل النقدي مطولاً أمام هذا الاقتراح، لأنه نموذج بارز لمحاولات تطوير العمل العربي المشترك بالقفز فوق الواقع! وذلك لأن هذا الاقتراح يتجاهل تماماً الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد العربية التي تمنع تحققه. فهناك تباينات لا حدود لها بين أنظمة ملكية تقليدية وأنظمة جمهورية وأنظمة «ثورية»، بالإضافة إلى عدم تجانس الأوضاع الاجتماعية والثقافية، ما يجعل الانتقال من الوضع القطري السائد إلى هذا النمط التوحيدي الشامل أشبه بيوتوبيا (مدينة فاضلة) غير قابلة للتحقيق! غير أن هناك اتجاهاً آخر أكثر واقعية يرى أن يكون التغيير باتجاه اتحاد عربي تدريجياً وليس فورياً، على أن يتم تسريع الخطوات اللازمة للوصول إلى هذا الاتحاد. ومن الأهمية بمكان أن نذكر أنه تم التوافق في نهاية القمة الخماسية على السير في هذا الاتجاه. غير أن هذا التوافق لم يحدد استراتيجية محددة تتضمن خطوات تراكمية لتحقيق الاتحاد ولا أفق زمنياً لكل مرحلة. ومعنى ذلك رفض الاتجاه «الثوري» الذي يدعو إلى الإنشاء الفوري لاتحاد عربي، وتجميد الاتجاه الإصلاحي الذي يدعو الى التدرج لأنه لم ترسم خطة لتحقيقه. وهذه الطريقة العربية في التخطيط الاستراتيجي تختلف كلياً عن الطريقة التي اكتمل بها الاتحاد الأوروبي. فهذا الاتحاد بدأ بمفهوم مركزي حول الأهمية القصوى لتوحيد دول أوروبا في اتحاد واحد، ولكن المخططين رأوا بثاقب بصرهم أن الخطوة الأولى ينبغي أن تكون اقتصادية وليست سياسية. وهكذا بدأ التعاون الاقتصادي والذي استمر عقوداً من السنين، إلى أن انتقلوا إلى المرحلة السياسية بحيث تحول الاتحاد إلى كيان سياسي يحكمه دستور واحد. ونحن في العالم العربي فشلنا حتى الآن في إقامة سوق اقتصادية مشتركة، فكيف يمكن تأسيس اتحاد عربي هكذا بين يوم وليلة؟ وهناك توصيات متعددة تتفاوت بين صعوبة تنفيذها، وإمكان تنفيذ البعض منها. ومن الأمثلة عليها تحويل المجلس الاقتصادي والاجتماعي للجامعة إلى مجلس تنفيذي على مستوى رؤساء الحكومات، يشرف على برامج 16 منظمة عربية متخصصة. وهناك توصية أخرى عن التوسع في المجالس الوزارية القطاعية. ومن التوصيات غير القابلة للتنفيذ على أرض الواقع تشكيل قوة حفظ سلام عربية على أن يتم التوافق على عددها. وهناك غموض شديد يتعلق بالمهام التي تتصدى لها هذه القوة، بالإضافة إلى أمور حساسة تتعلق بقيادتها وتمويلها وطرق تمويلها، ومكان تمركزها. ومن بين التوصيات التي تعد نموذجاً لتجاهل الواقع العربي تلك التي تدعو إلى الإسراع في اتخاذ خطوات لتنفيذ قمة سرت في شأن تحويل البرلمان العربي الموقت إلى برلمان دائم! وسبق لنا حين تأسس هذا البرلمان أن أكدنا أنه مشروع وهمي في الواقع، لأن الوضع البرلماني متدهور للغاية في البلاد العربية. فهناك بلاد عربية ليس فيها مجالس نيابية منتخبة أصلاً، وبلاد أخرى مجالسها النيابية واقعة تحت السيطرة الكاملة لأنظمة الحكم فيها، وبالتالي فهي تفتقر إلى الإرادة الحرة المستقلة. وهكذا تصبح إقامة برلمان عربي موقت مشروعاً لا معنى له في الواقع، وثبت من الممارسة الفعلية أنه لم يستطع أن يقوم بأي إنجاز. وتبقى التوصية الخاصة بإنشاء محكمة عدل عربية وهي فكرة قديمة، ولكن تظل هناك شكوك قوية حول إمكان قيامها، لأن الدول العربية الحريصة على مصالحها الخاصة وفق منظور قطري ضيق، لن تقبل الالتزام بأحكام هذه المحكمة، لو أنشئت، إذا لم تتفق مع هواها. وأيا كان الأمر فقد حاولنا في الملاحظات السابقة أن نكشف عن الأسباب العميقة لتعثر محاولات تطوير العمل العربي المشترك، والتي يتمثل أخطرها على الإطلاق في أننا اكتفينا بتوافر مقومات القومية العربية، غير أن الحكام والأنظمة السياسية والمؤسسات والمثقفين العرب لم يقوموا بالجهد الكافي، وفق خطة منهجية مدروسة، لتحويل الوضع من كوننا نمثل فعلاً قومية إلى صياغة أمة بكل ما يعنيه ذلك من الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية. نعم في البدء كانت القومية، غير أن بناء الأمة يحتاج إلى خيال واسع ورغبة مجتمعية قوية، وإرادة سياسية غالبة! * كاتب مصري