كل ما يحتاج الشاعر اللبناني فادي العبدالله لكي يكون شاعراً جيداً هو التنظيم، ونقصد بالتنظيم ترتيب النصوص وتسلسلها لإيجاد وحدة عضوية لغوية وشعرية تساهم في توحيد المناخات الشعورية للنصوص والأشكال الكتابية المتعددة. ففي ديوانه الجديد «يؤلفنا الافتتان» الصادر عن دار ملمح في بيروت - 2010 هناك أكثر من تقنية وأكثر من شكل كتابي، ساهم سوء التنظيم في إيجاد بلبلة قد تجعل القارئ ينفر من إعادة قراءة النصوص مرة أخرى، وهي نصوص لو وضعت في إطارها الصحيح لقدمت نفسها والشاعر بطريقة أفضل. ما يساهم في هذه البلبلة أيضاً أن الشاعر يلعب باللغة ويتلاعب بقانونها ولا يتوانى في استخدام بعض التراكيب والأفعال بطريقته الخاصة المتحللة من كل القيود. هناك نصان مؤثران في المجموعة يعرف الشاعر جيداً انهما جيدان، لذلك وضع الأول في مقدمة المجموعة والثاني خاتمة لها، وهما على صعيد الشكل متشابهان ومضموناهما أثيران في الثقافة العربية. وعلى رغم أن المجموعة تحتوي نصوصاً جيدة أخرى إلا إننا سنتناول هذين النصين وبعض النصوص القصيرة التي تتخذ من «التوقيعات» تقنية لها. النص الأول تحت عنوان «الرجل السابق» وفكرته تتمركز على الموت والحياة وتشابههما. الرجل السابق ميت والرجل الثاني سيموت أو انه ميت أيضاً، وهما عاشا وماتا بطريقة متشابهة تماماً، حتى إن الأصدقاء الذين رثوا الرجلين هم الأشخاص أنفسهم، لكن أهمية الفكرة تكمن في أن الشاعر هنا يرثو نفسه بتجرد كما لو أنه يتحدث عن شخص آخر. تعيدنا هذه الفكرة من جديد إلى أسطورة الحياة بعد الموت في الميثولوجيا القديمة لكننا لا نجد في النص إشارة إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد، فالنص بيوميته وصفائه وبساطة لغته لا يوحي بذلك. «حين مت/ مت مثلك تماماً/ جلست على نفس المقعد/ وعرفت نفس الأصدقاء/ ووقعنا أحياناً/ أنا وأنت/ ثم مت مثلك تماماً/ يقولون إني أشبهك/ حسناً/ ربما قليلاً/ لكنني أشبه كثيرين أيضاً/ أنت/ العائلة/ الرجل السابق الذي نطح الجدار برأسه/ ففرت أفكار قليلة من بين الخصل المتناثرة». قبل أن نواصل القراءة نريد أن نتحدث قليلاً عن تقنيات الكتابة عند الشاعر فادي العبدالله، وقد قمنا بتثبيت الأبيات كما وردت في الكتاب. في هذا المقطع سيلاحظ القارئ عدداً من الخطوط المنحرفة تفصل بين الأبيات الشعرية في المقطع، فهل هناك دلالة أو علامة أراد أن يشير إليها الشاعر؟ ولماذا لم يستخدم النقط الفاصلة بدل الخطوط مع أنها أصلح؟ سنلاحظ في ما بعد أن الشاعر لا يكتفي بتحطيم تقنيات الكتابة في استخدام النقطة والفارزة وعلامة الاستفهام، بل تحطيم الأنساق والسياقات وإبدال بعض المفردات أو إضافة نصوص أخرى لا تمت بصلة لعمله، مثلما وضع مواد من قاموس لسان العرب في مقدمة بعض النصوص. لنعد إلى المقطع ونستخدم تقنية الكتابة التقليدية. سنضع بدل الخط المنحرف الأول نقطة وبدل الخطوط علامة تعجب أو فارزة أو نقطتين، ونعيد بذلك للنص شكله البصري المعتاد، لكن فادي العبدالله يريد شكلا بصرياً خاصاً به. في النصوص القصيرة التي تشبه التوقيعات والأقوال المأثورة أو الحكم البليغة تشعر أحياناً أنها مشتتة ومتشظية على رغم وجود الكثير من الشذرات الجميلة التي يمكن ان تجمع في كتاب منفرد مثلما فعل الشاعر في ديوانه الأول «غريب وبيده كاميرا» الذي صدر عن دار الجديد في بيروت. أما النص الثاني الذي جاء تحت عنوان «ورق الورد» فهو طويل ويمكن أن نسميه النص المفتوح لأنه يضم بين دفتيه الشعر والنثر والسرد والكلام العادي وتقنيات الانترنت ولغة الرسائل. تقنية النص المفتوح تنفتح على الأشكال الكتابية كافة وتستثمرها لخلق نص يحتمل التجريب في أقصى مدياته، لكن، ليس من السهل أن يكتب أي شاعر بهذه التقنية لأنها محفوفة بالمخاطر، وأولها السقوط في النثرية وضياع الشعر. يبدو النص بمثابة حوار بين رجل وامرأة حول الحب، بل حول غشاء البكارة الذي فقدته هذه المرأة في علاقة سابقة مع رجل اسمر البشرة هو محط ازدراء الجميع. تحاول المرأة أن تتجنب سرد تاريخ حياتها وقصة غشاء البكارة الذي فقدته مع الأفريقي لحبيبها الجديد، لأنها تعرف أنها أمام رجل عربي شرقي لا يؤمن بشيء مستعمل من قبل، لكنها في نهاية المطاف ستثور على الجميع وترتدي الحجاب لتكرس حياتها إلى شيء آخر غير الحب. «هل أنت مثلهم كلهم؟ مثل كل الذين احتقروني لأنني اخرج مع شاب أجنبي، أفريقي اسود، وكل الذين اعتبروني مشاعاً لهم ولرغباتهم لهذا السبب. ومثل كل الأصدقاء الذين أصبحت نظراتهم كلاباً تعض في جلدي والذين أصبحت أصواتهم عسلية مخدرة متملقة في الوقت نفسه». يعالج فادي العبدالله هذه الموضوعة الشائكة في الثقافة العربية كعادته بسخرية متهكمة وبطريقة سوريالية أحياناً لا تخلو من غضب غير مكتوم، فهو هنا يستخدم تقنيات الانترنت لكي تبدو المعالجة واللغة مقبولتين خصوصاً إن اللذين يتبادلان رسائل الانترنيت غير مكشوفين للآخرين وبالتالي يمكنه استخدام اللغة التي يريدها ومناقشة المواضيع التي يختارها بلا رقيب «الحب والذل. أنا اليوم أحاول أن امحوهما، استعداداً للقاء ربي، بملابس بيضاء. سلام». كاتب عراقي