قبل الحديث عن المعاهد العلمية والحجج التعليمية في مجتمع المدن العربية إبان الوجود العثماني، لا بد من الإشارة إلى أنّ حلقات التعليم على امتداد العالم الإسلامي قد ظهرت مبكرة، فتعددت حلقات التدريس في أروقة المساجد والكتاتيب، وحسبك أن تزور جامع الأزهر أو أحد المساجد كالجامع الأموي في دمشق وجامع القيروان في تونس، لترى الشيخ مقبلاً على طلابه، وهم شاخصون بأبصارهم نحوه، لا يرون سواه، ولا يستمعون إلا إليه. إنّ هذه الظاهرة البارزة التي تميّزت بها جميع الحواضر الإسلامية، عرفت حلقات التعليم على مدى قرون طوال، ولم تكن أي مدينة لتشذ عن هذه القاعدة، خصوصاً في ظروف كانت الوسائل التقليدية في التعليم هي القاعدة المتّبعة. ولكي نفهم الأسلوب الذي كان سائداً في موضوع التعليم، لا بدّ من الإضاءة على الدور الذي لعبه المشايخ الأعلام الذين أنيطت بهم مهمة القيام برسالة العلم وتأهيل طلابهم وفق طريقة ميّزت الواقع التعليمي طيلة الفترات التاريخية السابقة. فقد كان الشيخ يجلس في زاوية من زوايا المسجد الكبير في أي مدينة عربية، ويفتتح الدرس بالبسملة والصلاة على الرسول وآله، وربما تلا بعض آيات من الذكر الحكيم أو بعض أحاديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) التي يحضّ فيها على طلب العلم، وعلى التواضع في طلبه، وعلى حسن السيرة والأخلاق، مبيناً لهم أنّ ذلك يعين على حل المشكلات، ثم يبدأ الدرس بعد هذا التقديم. أما عن كيفية تكليف الشيخ مهمة التدريس في المدارس والمساجد، فقد زوّدتنا سجلات المحكمة الشرعية لمدينة طرابلس بالكثير من الحجج التعليمية التي أشارت إلى الطريقة التي يكلف بها الشيخ مهمة التدريس. فبعد التأكد من أهليته ولياقته واقتداره لأجل إلقاء الدروس وتعليم العامة من المسلمين يتقدم الشيخ إلى مجلس الشرع الشريف في المدينة الذي ينعقد برئاسة الحاكم الشرعي وبحضور نخبة من أصحاب الفضيلة العلماء الذين يشهدون بكفاءة المرشح وأهليته واقتداره ولياقته ومعرفته بجميع العلوم الدينية، وينوهون بصفات الزهد والتقوى وبجهده بالمداومة على وظيفته في الأوقات المناسبة، وهو يتعهد بحسن القيام بها سالكاً بذلك سلوك التقوى مراقباً عالم السر والنجوى. وتظهر بعض الحجج التعليمية أسلوباً آخر للتكليف بالتدريس كما جاء في إعلام للشيخ محمد أفندي الحسيني في جامع طينال لمدينة طرابلس مؤرخ بتاريخ 1317 هجرية، ومما جاء في هذه الوثيقة الحجة: «انه إذا توفي صاحب الوظيفة ولم يترك ابنا ذكراً يخلفه ويقوم بأعباء وظيفته، وإذا ما تقدّم طلاب كثر لهذه الوظيفة توجه تلك الحجة على أزيدهم أهلية، وإذا تساووا في الأهلية يرجح قريب المتوفى، وفي الثانية من لا يوجد له جهة، وفي الثالثة للفقير، وفي الرابعة تتخذ القرعة مداراً للترجيح، ويقتضي في نظير هذه الحالة توجيه مثل هذه الوظيفة المتعددة طلابها إلى أكثرهم استعداداً، أو يرجح القريب للميت عند مساواتهم في الدرجة الامتحانية. وعليه يعيّن يوم امتحان في المحكمة الشرعية وتشكل لجنة مؤلفة من أفاضل العلماء. ويبلغ المرشحون بضرورة الحضور لإجراء الفحص». أما الأسئلة فتكون شفهية وكتابية، وهي مأخوذة من بعض الأحاديث الشريفة المروية. وبعدما تلقى الأسئلة على المرشح ويظهر استعداده الكلي وأنه عالم فاضل لأداء هذه الوظيفة والقيام بها، يعيّن بموجب الكتاب الشرعي المختوم من النائب الشرعي للمدينة. وكثيراً ما اشارت سجلات المحاكم الشرعية إلى أسماء اللجنة الفاحصة كما ورد في الحجة لتوجيه التدريس في جامع العطار في مدينة طرابلس باسم الشيخ عبدالرحمن منقارة في السجل 90 تاريخ 1304 هجرية. أو في حجة ترقي وظيفة التدريس في جامع العطار على وقف الفقهاء والصدقة باسم الشيخ نجيب الحامدي العمري في السجل الرقم 22 بتاريخ 1306 هجرية. فيما بعض الحجج الأخرى تغفل أسماء أعضاء هذه اللجنة إغفالاً تاماً، كما نرى ذلك في إعلام توجيه وظيفة التدريس في جامع الطحان لمدينة طرابلس وتلاوة القرآن باسم فخر الدين القوقجي في السجل الرقم 114 تاريخ 1331 هجرية. وثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام وهي أنّ شهادة مفتي المدينة أو بعض علمائها الذين كانوا يزكون المرشح بشهادتهم، الأمر الذي يعضد طلبه أمام قاضي الشرع ولجنة العلماء الفاحصة، وكأن ذلك شهادة اقتدار في السيرة والعلم التي تتمتع بها شخصية المرشح. وشهادة الشيخ عبدالرحمن رافعي في السجل الرقم 104 تاريخ 1318 هجرية مثال بيّن على ذلك. وبعد الحصول على حجة التدريس كان الشيخ يشرع في مزاولة إعطاء الدرس ضمن حلقة الجامع، يلقيها على تلامذته المداومين أو ممن رغب في الحضور، ولم تكن مدة التدريس محددة بفترة زمنية معينة، وإنما كانت تطول أو تقصر بحسب طبيعة العلوم الشرعية والدينية والعقلية التي تلقى، أو بحسب قدرات التلامذة على امتصاص هذه المواد واستيعابها. وحين كانت تنتهي الدراسة بمختلف موادها كان الشيخ المدرس يجيز تلامذته بشهادة مذيلة بإمضائه. أما عن راتب الشيخ المدرس، فإنه كان يصرف من غلّة وقف الجامع الذي يكلف بالتدريس فيه، وهذا ما جاء في إعلام توجيه وظيفة تدريس في جامع طينال باسم الشيخ محمد يمن الجسر بتاريخ 1328 هجرية. كما أنّ هذا الراتب يصرف من صندوق أوقاف المدينة كما هو مبيّن في توجيه وظيفة التدريس في جامع الطحان وتلاوة القرآن باسم فخر الدين أفندي قاوقجي في السجل 114 تاريخ 1331 هجرية. كما أنّ هناك تكليفاً بالتدريس يظهر فيه أنّ المدرس الشيخ يقوم بمهمته مجاناً ومن دون أجر كما هو مبيّن في حجة التدريس لجامع الحميدي في مدينة طرابلس باسم الشيخ عبد رافعي في السجل 102 تاريخ 1318 هجرية. وقد أشارت سجلات المحكمة الشرعية بوضوح إلى النفقات التي كانت تصرف للشيخ لقاء القيام بمهمة التدريس هذه، وإنها لتقع على أشكال متعددة من الرواتب التي كان يتقاضاها الشيخ، منها ما كان يقتطع من مال وقف الجامع الذي يكلف الشيخ التدريس فيه كما ورد في وظيفة التدريس المكلف بها الشيخ حسين الجسر في جامع طينال والتي بلغت ألف قرش في الشهر تدفع من وقف الجامع. ومنها ما كان يقتطع من وقف الجامع وصدقات الفقهاء كما ورد في حجة ترقي وظيفة التدريس في جامع العطار بمدينة طرابلس على وقف الفقهاء والصدقة باسم الشيخ نجيب أفندي الحامدي تاريخ 1306 هجرية. أما في ما يخص المعاهد التعليمية التي شهدتها المدن العربية، فلا بدّ من الإقرار بأنه لم تكن توجد في ذلك الوقت مدارس بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل إنّ جميع حلقات التعليم كانت تعقد في أكثر مساجد المدن وكتاتيبها. كما أنّ هذه الكتاتيب نشأت وازدهرت بريع الوقف الخاص بها وإحسان المحسنين، والدولة العثمانية من خلال ولاتها تكتفي فقط بتوجيه مناصب التعليم على نفر من العلماء، حتى إنّ ما كان يعيّنه بعض الحكام في المدارس والكتاتيب لم يكن للدولة شأن فيه. ويتوافق هذا النشاط العلمي الذي كان مركزه الجوامع والكتاتيب مع ظاهرة انتشار المكاتب التعليمية في أحياء المدن العربية التي يشرف عليها أساتذة من ذوي الاختصاص. وهذه المكاتب تعتبر نصف رسمية، إذ للدولة حق الرقابة عليها من ناحية المناهج. أما شهاداتها فمقبولة في وظائف الدولة. وفي دخول المدارس السلطانية وتزودنا سلنامات الأعوام 1295 هجرية و1298 و1312 هجرية بأسماء الكثير من المكاتب لتلك التي انتشرت في مدينة طرابلس، ومنها على سبيل المثال مكتب محلة النوري ومكتب الحدادين ومحلة الطرطوسي ومكتب العطار ومكتب باب التبانة ومكتب الإعداد الملكي مع اسماء مديريه وعدد الطلاب المسجّلين في تلك المكاتب. * كاتب لبناني