لم تكن جدة لتقوى على الحياة وحيدة من دون مبادرات أهلية كبرى، أسهمت بشكل كبير بجانب تنمية الدولة في إبقائها زاهية وقابلة للحياة مهما تعرضت لعوالق «الإهمال» أو عقوق «الأبناء». وعلى رغم أن تلك المبادرات كثيرة وأتت من رواد مهمين أعطوا جدة من فكرهم وحياتهم الكثير خلال ال «30» عاماً الماضية، إلا أن هناك من وضع بصمته «خالصة لجدة» حتى أصبحت لا تزول، وباقية في عين وروح أهلها. ومن ضمن هؤلاء 13 رائداً برزوا ليكونوا دليلاً على أن المبادرات الحقيقية هي من تعيش، وأن القفز إلى المصالح الشخصية زائل لا محالة، بل إن جدة بقدرتها على النفاذ إلى النفوس قادرة على كشف الكاذبين، وأصحاب المصالح الفاسدين الذين قدموا مصالحهم على مصلحة المدينة المتعبة. أول هؤلاء المبادرون الكبار كان محمد سعيد فارسي، رائد جدة الحديثة، التي لازلنا نعيش على بقايا إبداعه فيها. المدينة التي كانت بين أصابعه من أجمل مدن الشرق في أواسط الثمانينات، وصاحبة أجمل كورنيش وأكبر متحف مفتوح في العالم، رسم خطواتها الأولى بعين من حرير وروح من ألوان. ويأتي صالح كامل كرائد ثانٍ كبير من روادجدة العصرية، عندما أطلق من برجه الكبير في آخر شارع فلسطين، مدينة «درة العروس» لتكون رئة إضافية تتنفس منها جدة بعدما ضاق الهواء. ولا ينسى أهالي جدة الأديب الكبير ورجل الأعمال محمد علي مغربي الذي أنشأ «سوق جدة الدولي» خارج أطراف جدة المعروفة حينها، ليكون حدثاً اقتصادياً صاخباً ومعلماً بارزاً، في وقتها، ومزاراً كبيراً وفاتحاً لفكرة «المولات» الحديثة. ثم يجيء الأمين العام لغرفة جدة الأسبق الدكتور عبدالله دحلان الذي أطلق في سماء العمل التجاري عدداً من المبادرات المهمة التي أسهمت في تطوره، كان من أبرزها إقامة برج الغرفة الأزرق الشهير، وإقامة مدينة للمستودعات كانت الأكثر تأثيراً في حركة التجارة بين جدة وبقية مدن المملكة، إضافة إلى إنشاء أول مركز تدريب غير ربحي في أواخر الثمانينات ساعد السعوديين في تعلم الحاسب الآلي واللغة الانكليزية وأسهم في توظيف الآلاف. ولم تتوقف مبادراته عند حد بل قفز عالياً بإنشاء مركز جدة الدولي للمعارض، عندما كانت جدةالمدينة الأولى في هذه الصناعة في المنطقة، إضافة لمبادرته المهمة بإطلاق برامج الماجستير الوظيفي التابع لغرفة جدة في وقت قحط التعليم الجامعي، وإنشاء أكبر مكتبة اقتصادية متخصصة في المملكة. وخامس هؤلاء المبادرين الكبار الذين أسهموا في إبقاء هذه المدينة حية نابضة بعدما دخلت في سبات عميق نهاية التسعينات الميلادية، كان الدكتور ماجد القصبي الذي استعاد هيبة جدة السياحية من مدن المنطقة المجاورة، وليطلق مهرجان جدة «الناس على فين رايحين» في تحدٍ صريح لسخونة الصيف وقلة «الحيلة السياحية»، ذلك المهرجان الذي أشعل حقولاً من الفرح في عيون الناس، وقدم بديلاً سياحياً محلياً حقيقياً، ودفع ب«جدة غير» ليصبح شعاراً ملاصقاً لهذه المدينة يؤكد فرادتها وحيويتها المستمرة. مبادرات القصبي لم تقف عند «المهرجان» الذي تتابع ليصبح «الناس على هنا جايين» و«جدة غير»، فقد نشأ في عهد إدارته لغرفة جدة ثاني أهم منتدى اقتصادي في العالم بعد «دافوس»، حينها استطاع هذا المنتدى الكبير أن يضع المملكة وشبابها واقتصادها في عين العالم، وأن يستقطب رجالات دول ورؤساء حكومات واقتصاديين كباراً. ومن المبادرين لصالح جدة يأتي عمرو الدباغ الذي ابتكر المدن الاقتصادية، حين اقترح وبادر بدعم خادم الحرمين الشريفين لإنشاء مدينة الملك عبدالله الاقتصادية على بعد خطوات من جدة، إضافة إلى بضع مدن أخرى، التي على رغم تعثرها إلا أن الفكرة والجهد الكبير وراءها يؤكد أهميتها وقدرتها على التحول لمحركات ضخمة داخل الاقتصاد السعودي. ولم تقتصر المبادرات على موظفين كبار بل امتدت إلى مساهمين من جيل الشباب الباكر، أطلقوا أفكارهم في سماء جدة لتبقى محلقة في سماء الفن حتى الآن. ويقف على رأس أولئك المبادرين «يحيى البشري» الذي فتح الباب مشرعاً أمام الفنانين ومصممي الأزياء وإنشاء دار يحيى للأزياء في وقت باكر، وفي وقت كان مجرد التفكير فيها يعتبر انتحاراً اجتماعياً. ويأتي ثامناً الأخوان سارة ومحمد العايد كمثال على مبادرات الأعمال المهمة التي أطلقت سوق « بزنس الشباب» في جدة من خلال شركتهم «للعلاقات العامة والإعلام» التي تعد الآن من كبريات شركات العلاقات العامة في المنطقة. ومن المبادرين الكبار الذي مسحت يدهم أعين الفقراء، ولملمت زفرات الأرامل من عوز الحاجة، يأتي عبدالرحمن حسن شربتلي كرائد للعمل الاجتماعي والخيري في جدة، الذي بادر بابتعاث «أيتام جدة» للدراسة على حسابه في جامعات حول العالم، مشركاً إياهم في فرصة التعلم وتحويلهم الى «طبقة منتجة». وكعادة جدة في حيويتها لم تنس أن هناك على الجانب الآخر من التنمية تبرز الأفكار والحوارات الجادة، التي كان على رأسها «صالون محمد سعيد طيب» رائد الصوالين الاجتماعية، الصالون الذي كان سبباً في إطلاق عشرات المجالس من بعده في شتى مدن المملكة. وإذا ذكرت «ثلوثية» الطيب تذكر أيضاً «إثنينية» الخوجة التي أصبحت «مخزناً كبيراً للثقافة والأدب» في مدينتنا الساحلية، ونافذة يطل من خلالها المبادر البارز عبد المقصود خوجة بجدة على عالم الثقافة والأدب والكتاب. ولم تتوقف جدة عن توليد المبادرين وتنصيبهم عالياً، فها هي ذي سيدة الأعمال المرموقة، والداعمة الكبرى لحقوق وعمل المرأة لمى بنت عبدالعزيز السليمان، تسهم في إنشاء مركز «السيدة خديجة بنت خويلد» الذي يهتم بصناعة الفرص الوظيفية والتجارية للنساء، ولتتولى بعد ذلك أرفع منصب نسائي في عروس البحر الأحمر كنائبة لرئيس مجلس إدارة غرفة جدة. إلا أن جدة كما رحبت بمبادرات أبنائها في أوقات الفرح والحبور فهي بالتأكيد لن تنسى الذين لملموا جراحها عند الألم، وهي بالتأكيد لن تنسى رائد العمل التطوعي وأعمال الإغاثة إبان كارثة «سيول جدة» رئيس جمعية البر «مازن بترجي»، الذي أسهم بمبادرة منه في إقامة أكبر جسر إنساني بين أرواح وقلوب وعيون سكان جدة. * كاتب سعودي. [email protected]