تعبّر الفضائيات العربية عن «طفرة التخلف»، وتقوم غالبية القنوات بحراسة ما هو سائد، وهي لا تدل على انفلات في تنظيم الفضائيات أو إنشاء القنوات، بقدر ما تعبر عن انحطاط ثقافي تعمل تلك الفضائيات على نشره لتتم حال نشر الفضائح الثقافية على الملأ، وهذا ما عبّر عنه التوتّر المذهبي والتلاعن المصحوب بإسفاف. الكارثة أن ثلث الفضائيات العربية هي قنوات تبثّ الفرقة والمذهبية المقيتة التي تعتمد على اللعن المتبادل بين رموز الطوائف. لم تندثر المعارك بين رموز الطوائف، بل نعيش اليوم الاحتراب السني الشيعي ذاته الذي كان سائداً، بمعنى أننا لم نتجاوز حمولة التاريخ التي ورثناها، بل نعيشها بتفاصيلها. غيّرت الطفرة الإلكترونية والفوران التقني أساليب الصراع والعراك، تحوّلت الحروب من سيوف وسهام إلى أزرار ولوحات مفاتيح وشاشات، نرى اليوم إعلانات عن مسلسلات تتنافى عبرها الطوائف. تعتمد المواجهات بين المختلفين في العالم على الحروب الرمزية عبر الأزرار، مستغلين السلطات الإعلامية والإعلانية لترويج ما يريدونه من أفكار، ولاحتلال ساعات من الفضائيات ليقوموا ببثّ الضغينة والحقد بين المختلفين. صورة تلك الحرب يكتبها الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا، إذ يقول: «تنطلق الحروب الدينية اليوم من عقالها، وتسعى بكل ما أوتيت من قوة من أجل بسط هيمنتها على الأرض الإنسانية وعلى السماء بواسطة نظام رقمي وتصوير افتراضي شامل ومباشر، مثلما أضحت تستعين ب«المجال الجوي» والأقمار الصناعية الخاصة بوسائل الاتصال عن بعد، والطرق السيارة للمعلومات، وتركيز السلطات الرأسمالية الإعلامية، وعلى الجملة يمكن القول إنها تتوسل بالثقافة الرقمية والطائرة النفاثة والتلفزة، التي من دونها لن تتمكن من معاينة أية تظاهرة دينية، إذ سيتعذر على البابا مثلاً القيام برحلات، وإلقاء الخطب، كما سيختفي أيّ إشعاعٍ منظم للشعائر اليهودية أو المسيحية أو الإسلامية، وسواء كانت أصولية أم لا». تعتمد الكثير من الجموع على الاستسلام للحال التاريخية، والسماح لها بأن تؤثر على تشكيل أفكارهم عن ذواتهم، أو عن الأشياء وعن الآخرين المختلفين اليوم، إذ ينقرض شيئاً فشيئاً العقل المتسائل والحازم مع ما يستقبله من آراء أو معلوماتٍ أو أفكار، وهو الذي أطلق عليه محمد أركون «العقل المنبثق» ذلك الذي: «يتميز عن كل الاستخدامات السابقة للعقل على مستوى الدين والفلسفة والأنثربولوجيا بممارسة تتم بأدوات الفكر والرؤية التي تمنحه القدرة على تحويل الأحداث التي تحمل بوضوح أدلة غنية كاشفة على آمال الكائن البشري وآمال المجتمعات إلى بدايات جديدة». تعتمد الرهانات بين المختلفين على إمكان «الفضح» المتبادل، بحيث يترصد كل طرفٍ الطرف الآخر لغرض الانقضاض والإجهاز عليه، هذا ما عبّرت عنه طفرة التقنية، تحوّلت بعض الفضائيات إلى وسيلة لنبش التاريخ وتحويله إلى وسيلة للتخاصم. جاك دريدا يعتبر الحروب الدينية الحالية أصبحت حروباً «سبرانية»، تعبر عن الثقافة الدينية لدى كل طرف أو «السوسيو دينية»، إنه مرض نبش الخصومات التاريخية من خلال أدوات تقنية وإلكترونية، لكن ما العلاقة بين الطفرات التقنية وبين الأثير الديني الحربي، يجيب دريدا أن: «قوة الشهادة لدى هذه الظواهر تجد نفسها، بموجب تطابقها مع سلّم وتطورات الديمغرافية العالمية، ولا يخفى أن أثير الدين قد كان صدره دوماً مفتوحاً لنوع من الافتراضية الطيفية». الإعلام هو انعكاس وتعبير أمين عن أمراض المجتمع، ذلك أن الفضائيات مجرد متاجر تستهدف المشاهد الذي هو جزء من المجتمع، والطلب هو الذي يُخضع العرض، بتحالف بين «الماركة» التي تحلب البرامج المعروضة بالإعلان، وبين مضمون البرنامج الاستهلاكي تتحقق معادلة التدمير الفكري والديني والتحريض المذهبي، لكأنك وأنت تمرّ على تلك الدكاكين الفضائية إنما تشاهد حملة مسعورة منظّمة لحراسة المتسرّب من التاريخ، لتجميد الخصومات الموروثة التي لم تعد تعني شيئاً لأيّ فرد يعيش بكل أطرافه أحداث العصر الحاضر. [email protected]