كانت الأسئلة تتداعى الى رأسي وأنا أصغي الى حديث الباحثة الاسبانية أديبة بروميرو عبر «إضاءات» تركي الدخيل من قناة «العربية». فهذه المتحدثة البارعة كلمتنا في كثير مما هو مهم، كاشفة لنا كم أن هذا لا يزال يقف خارج اهتماماتنا الثقافية، أو بالأحرى خارج اهتمام مؤسساتنا الثقافية ووسائل إعلامها. وهو، على رغم قربه منا ذاتاً وتاريخاً، بعيد من عدسات التصوير التلفزيوني التي لطالما انشغلت، وتنشغل بكل عابر، من الكلام الى الأشخاص، وتترك القضايا الجوهرية التي هي من صلب تاريخنا وثقافتنا، وكأن المراد هو أن نظل لا نعرف الحقيقة عنها كاملة. من هذا الذي ينبغي أن نواصل الجهل به على نطاق واسع ما حدثتنا عنه أديبة، وأتوقف منه عند عنوانين لهما أهمية استثنائية بالنسبة لهذا التاريخ، فضلاً عن أنهما يمكن أن يشكلا مدخلاً لموضوعات أخرى في الأهمية ذاتها. وهما: الموريسكيون في اسبانيا الذين تنحدر منهم أديبة أصولاً وعذابات اكتوى أجدادها بنارها على عهد محاكم التفتيش... قبل أن تفتح، ومعها عائلتها غير المغمورة اجتماعياً وثقافياً، باب الحرية واسعاً أمام نفسها فاختارت العودة الى «أصولها الإسلامية». ولا شك في أن في حياة هؤلاء الموريسكيين (وإن كانت التسمية تؤذي مشاعر أديبة، كما قالت) من المواقف والحكايات والقصص ما ينتمي الى جوهر حياة الإنسان الأندلسي ومن صلب تاريخه، ويمكن أن يشكل، لو عرض على طبيعته، اكتشافاً لحياة بقيت في الظل، وكشفاً عن تاريخ يمكن لقنواتنا التلفزيونية أن تجعل منه دراما إنسانية - تاريخية لا أجد في ما تقدمه من «فنون الدراما»، ما يمكن أن يرتقي الى مستوى ما قد يأتي به لو تحقق. وقد وجدت في حديث أديبة، على قصره أمام سعة الموضوع، واجتزاءاته بالقياس الى كثرة التفاصيل، ما يمكن أن يشكل أساساً ومنطلقاً لهذه «الدراما الإنسانية» الضخمة منذ سقوط غرناطة، مدينتها، الى اليوم - هذا إذا ما توافر له المؤلف الذي يجعل من الموضوع قضيته، أو المعد الذي يمتلك شيئاً من حماستها وإخلاصها ووفائها لتاريخ قومها - تاريخها. الموضوع الثاني الذي قدمت عنه الباحثة الاسبانية إشارات مهمة، ومثيرة للغضب، هو: «قصر الحمراء» في غرناطة وما يتعرض له تاريخه من تشويه على ألسنة الأدلاء السياحيين الاسبان، ما دفعها، ذات سنوات، انطلاقاً من اعتزازها بتراثها وصيانة لذاتها التاريخية، أن تذهب بنفسها الى هناك، حيث القصر والزوار، في أيام العطل الأسبوعية، لتقدم لهم الحقيقة عن القصر وأهله، وماذا كان، وكيف كان، ما أدخلها في مواقف قاسية مع أولئك «الأدلاء المزورين» للحقائق التاريخية. وهو موقف لا يقدم عليه إلاّ إنسان مثلها: مؤمن بتاريخه وتراثه، وحريص على الحقائق المتصلة بهما. هذان الموضوعان اللذان نقتبسهما من حديث أديبة بروميرو نضعهما برسم الفضائيات العربية التي نجدها لا تهتم، غالباً، إلاّ بالرائج من الموضوعات، والعابر من الأسماء، فتربك علينا المشهد، وتستلب منا متعة المشاهدة (المفترضة) وتعتم الرؤية على كثر. فهل ستفكر قنواتنا الفضائية العربية بمثل هذه الموضوعات مستعينة بأصحاب الخبرة العلمية والفنية لا بالمتسرعين والسطحيين؟