من الأقوال المأثورة في أميركا اللاتينية «إذا مات كلب الأسقف، اذهب إلى الجنازة. وإذا مات الأسقف، فليذهب الكلب». لعل ذلك يفسر المشاركة الضئيلة لقادة العالم السياسيين في جنازة فيديل كاسترو الذي شغل العالم طوال خمسة عقود عاصر خلالها احتدام الحرب الباردة التي لعب دوراً أساسياً في دفعها إلى شفير الصدام النووي، وكان لاعباً رئيسياً في إشعال حروب التحرر من الاستعمار في أفريقيا وآسيا، ومحجّة لازمة للثوار واليساريين... وأيضاً للعديد من الوصوليين في السياسة والفنون والآداب. منذ وفاة «الكوماندانتي» ليل 28 الشهر الماضي كالمنتصرين، لا تعيش كوبا فترة حداد على قائد ثورتها وصانع شهرتها فحسب، بل كأنها تطوي مستسلمة صفحة من تاريخ يقين، وإن مضطرباً، لتطلّ على مرحلة يكتنفها القلق من المجهول وتعتمل حولها كل التساؤلات والتكهنات. ألف كيلومتر قطعها الموكب الذي كانت تتقدمه عربة عسكرية تجرّ مقطورة متواضعة تحمل صندوقاً يحوي رماد فيديل ملفوفاً بالعلم الكوبي، من عاصمة الثورة هافانا في غرب الجزيرة إلى مهد الثورة سانتياغو على الطرف الشرقي، حيث ولد فيديل ومنه انطلق مع رفاقه ليقود حرب التحرير على ديكتاتورية باتيستا التي كانت ترعاها الولاياتالمتحدة. عاد المحارب ليجتاز، في الاتجاه المعاكس، الطريق ذاته الذي سلكه منذ سبعة وخمسين عاماً على رأس جيش الثوار الذي دخل العاصمة ظافراً ليرسي نظاماً سرعان ما تحول ظاهرة ومختبراً سياسياً في محيطه الإقليمي والعالم. في الطريق من هافانا إلى سانتياغو محطة لا بد منها في سانتا كلارا التي دارت فيها معركة حاسمة في حرب التحرير، حيث ترقد اليوم رفات تشي غيفارا، «الكوماندانتي» الآخر الذي غالباً ما كان يخطف الأضواء من فيديل، والذي من الأرجح أن يعمّر أطول منه بين رموز النضال السياسي. غفيرة الجموع التي احتشدت في وداعها الأخير لفيديل على جانبي الطريق في سانتا كلارا، وعند مدخل المدينة ترتفع لافتة كبيرة تحمل شعاراً كانت له منزلة خاصة عند غيفارا الذي غالباً ما كان يردده في خطبه «الثقافة هي السبيل الوحيد إلى الحرية». وعندما عبر الموكب المناطق الريفية، برزت مفاتن كوبا الطبيعية التي دفعت بالرحالة إلى تسميتها «لؤلؤة الكاريبي»، حيث تنبسط أمامك المساحات بين اخضرار واصفرار على امتداد النظر. لكن الحر اللاهب لم يمنع المزارعين من الاصطفاف طويلاً على جانبي الطريق ورفع قبعاتهم البيض العريضة تحية ووداعاً لمن غير وجه كوبا في العالم. في سانتياغو، احتشد الآلاف منذ الخميس الماضي يمرون بصمت وانتظام أمام الرفات التي وضعت عند المدخل الرئيسي المؤدي إلى ساحة غيفارا، لافتة الأعداد الغفيرة من الشباب الذين يحملون شعارات مثل «أنا فيديل» أو «ثورة حتى النهاية». غالبية من تتحدث إليهم تمتدح فيديل وإنجازات الثورة في مجالات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية ودور المرأة وحقوقها والمساواة بين الأعراق، وثمة من يكتفي بالقول أنه جاء لتكريم مَن كان له الدور الأكبر في تاريخ كوبا الحديث تاركاً الحكم النهائي للتاريخ. لكن آخرين قرروا أن لا يتركوا الحكم للتاريخ، فنشر أحدهم شريطاً على وسائل التواصل الاجتماعي ابتهاجاً بوفاة كاسترو، وسرعان ما ألقي القبض عليه ليزج به في السجن. في ساعة متأخرة من مساء أول من أمس (السبت) كان الاحتفال الرسمي الوداعي الأخير في حضور رؤوساء فنزويلا والمكسيك وكولومبيا والإكوادور وبوليفيا وبنما، حيث ألقى الرئيس الحالي وشقيق فيديل كلمة أكد فيها ثبات المبادئ التي قامت عليها الثورة بقيادة فيديل واختتمها بقوله: نقسم أن ندافع عن الثورة الاشتراكية. وفي ساعة مبكرة من صباح أمس جرت مراسم الدفن التي اقتصرت على العائلة وعدد ضئيل من المقربين، تنفيذاً لوصية فيديل التي تضمنت عدم إطلاق اسمه على أي شارع أو ساحة أو مدينة أو مؤسسة، وعدم إقامة أي نصب تذكاري أو رفع تمثال له أو إصدار حتى طابع بريدي يحمل صورته. ويرجح أن الضريح الذي بني في تكتم شديد ولم يسمح حتى الساعة لوسائل الإعلام بزيارته، يقع على مقربة من ضريح الشاعر والبطل القومي خوسيه مارتي الذي كان لسيرته وكتاباته كبير الأثر عند فيديل. تطوي كوبا وثورتها صفحة فيديل شبه يتيمة فيما ترتسم أمامها أسئلة صعبة وتساؤلات ثقيلة. كادت الجزيرة العائمة على اصطراع الموج منذ ستة عقود أن تودع قائدها المثير للجدل على وعد بفتح صفحة جديدة مع جارتها اللدود ومصدر مآسيها، لكن الرياح اليمينية التي هبت فجأة على الولاياتالمتحدة تنذر بشتاء مضطرب في الجزيرة التي تخشى أن تكون قد فقدت بوصلتها.