خلص باحث أكاديمي في جامعة الملك خالد بأبها الدكتور محمد جميل محمد المصطفى إلى القول بأن شهادة الكافر على المسلم وله، مقبولة فقهياً، وذلك بعد نقاش مستفيض لتحرير «شهادة الكافر في الفقه الإسلامي»، وهو الموضوع الذي ألمح الباحث إلى أن الفقهاء من قبله يُعرِضون عن قبوله صفحاً. ومع أن ما توصل إليه الباحث من الناحية التطبيقية، غدا سائداً في الدول الغربية، وفي دول عربية وإسلامية، ليست النصوص الشرعية، المصدر الوحيد التي تستمد منه في تشريعاتها، إلا أنه ربما اعتبر في بلد مثل المملكة تُحكّم الشريعة، بحثاً مثيراً للجدل، وقابلاً للتعاطي، فهل تقبل المحاكم السعودية شهادة غير المسلم ضد المسلم؟ الكاتب لم يهتم بالإجابة عن هذا التساؤل، إنما غاص ما استطاع في بطون الفقه الإسلامي، وفتح عينيه على الواقع الميداني عالمياً، في محاولة لتنزيل الأول على الثاني، مبرراً ذلك بأن «المجتمعات الاسلامية اختلطت بغيرها، ولم تبق دولة يسكنها المسلمون صرفاً، بل تجد في رعايا الدولة المسلم والذمي والمجوسي والمستأمن، وقد يكون المسلمون في الدولة أغلبية، أو أقلية، والمعاملات بين الناس جارية على قدم وساق، ويحتاج الناس في معاملاتهم إلى الإشهاد على بيوعهم ومعاملاتهم، ويحتاج المسلم والكافر إلى الشهود، لإثبات الحقوق، وإثبات تجاوزات غيره عليه أو العكس، وقد لا يتيسر المسلم العدل المرضي الشهادة، وقد لا يوجد في المكان مسلم يشهد، فيؤدي ذلك إلى ضياع حقوق كثير من المسلمين...» إلى غير ذلك من المبررات التي ساقها في تمهيد بحثه المحكّم، الذي نشرته مجلة «العدل» أخيراً. وأشار إلى أن بحثه في بادئ الأمر استهدف «بيان حكم إشهاد الكافر في القضايا العامة. وبيان إشهاد الكافر لمثله، وشهادته عليه. وبيان شهادة الكافر للمسلم وعليه»، وناقش عبر هذه المحاور، تساؤلات: «أن تكون شهادة الكافر مردودة في كل الأحوال. أن تكون مقبولة في كل الأحوال. أن تقبل في بعض الحالات من دون بعض». وأثناء الخوض في مناقشة أدلة المؤيدين من الفقهاء للتساؤلات التي طرح، والرافضين لها، رجّح هو في نهاية كل محور ما يعتبره الصواب، حتى وإن كان المؤيدون له أقلية. ثم أطلق رأياً جريئاً عاماً، ب «صحة شهاد الكافر على المسلم عند الحاجة إلى ذلك، في كل موضع فُقد فيه المسلم، حضراً، أو سفراً كما قاله ابن تيمية، وسواء في ذلك الوصية أو النكاح أو البيوع أو غير ذلك، ما دامت العلة قائمة، وهي فقد الشاهد المسلم، كما هي حال المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكفر»، وذكر سبع حجج وبراهين شرعية، وعقلية ومنطقية، دافع بها عن قوله. إلا أن تلك البراهين، إلى جانب اسم ابن تيمية الثمين، لم تُشعر المصطفى بالأمان حين رجّح الرأي السابق، فاعتذر في خاتمة بحثه بالقول «أعلم أن هذا البحث شائك، وقد يرميني بعض الناس بالخروج على اتفاق الفقهاء في رد شهادة الكافر، لكني لست بدعاً في ذلك، فقد سبقني على القول بهذا أئمة كبار، كابن تيمية وابن القيم رحمهما الله تعالى اللذين راعيا مقتضيات عصرهما مما لم يعايشه أو يحتاج إليه بعض الفقهاء السابقين، ولا يليق بالفقهاء اللاحقين تجاهل الواقع، فقد انتشر الكفار بين المسلمين، واستوطن المسلمون بلاد الكفر على نحو يصعب تميز المسلم من غيره، وهذا مما يستدعي الاجتهاد بما يرفع الحرج». وبين اللافت للانتباه في البحث المثير، أن الكاتب، حتى وهو يرجح قبول شهادة غير المسلم عند الحاجة، يرجح على النقيض تماماً أن «الكافر لا يعتبر عدلاً في شريعتنا، وبحسب شروط المسلمين في العدالة». إلا أنه دفع التناقض بأن نفي العدل عن غير المسلم في نظر القائلين بجواز شهادته، لا يعني رد شهادته في نظر هذه الشريحة من الفقهاء، وذلك أن «لكل قوم ميزانهم في قبول قول الشخص أو رده، المهم أن يكون صادقاً في قوله مجتنباً للكذب»! شهادات لغير المسلمين ملحّة الآن أما أهم محور في البحث، فكان الجانب التطبيقي، الذي أبرز فيه الكاتب، الشهادات التي يحتاج إليها المسلمون من غيرهم، ولا يزالون يتلقونها. ربما من دون التفكر في السؤال الفقهي الذي طرح أصلاً. وقال: « يمكن إجمال الكلام في شهادات الكفار التي يحتاج إليها، في المسائل التالية»: أولاً: الشهادات الطبية إذا كان فقهاؤنا قد أجازوا شهادة الطبيب الكافر في المرض المبيح للفطر أو الصلاة قاعداً – كما سبق بيانه – فإنه يقال: تقبل شهادة الطبيب الكافر عند فقد الطبيب المسلم أو عند عجز الطبيب المسلم عن فهم السبب، لقصور في علمه أو أجهزته أو إمكاناته، وإذا جازت شهادة الطبيب الكافر الواحد فمن باب أولى جواز شهادة الفريق الطبي بشيء ولو كانوا كفرة، لأن شهادة الفريق أكثر واقعية وبعداً عن الخطأ والتهمة من شهادة الواحد، والأغلب في شهادتهم الصدق والحياد والموضوعية، يظهر ذلك في تقاريرهم وشهاداتهم عن أضرار الخمر والمخدرات والدخان، مع أنهم استحلوها وأُشربوا حبها، وما يذيعه فرق من الأطباء عن سبب مرض معين، وعلاج ذلك المرض لا يمكننا تكذيبه، لأنه ليس عندنا دليل ينقض ما صرّحوا به، وهذه المسائل أصبحت كمسائل الجمع والطرح في الرياضيات، حلها واحد، وخطؤها جلي يظهر لكل من يفهم هذا الأمر بلا مكابرة، فمن علم حجة على من لم يعلم، ولا حرج في قبول هذه الشهادات والأخبار، لأن القرائن تؤكد صحتها، ومن هذه القرائن: عدم نقض المنافس لها، وتسليم أهل الاختصاص بها، ولأن مثل هذه الاكتشافات أصبح أشبه بالتحديات بين الدول وخبرائها، فلو كانت خاطئة لسارع الخبراء المنافسون إلى تكذيب ذلك، فلما مرت هذه الكشوفات والشهادات دون إنكار، كان ذلك إجماعاً سكوتياً، أو إقراراً من الكفرة المختصين بصحة ذلك الشيء، فالظاهر صحتها، ولا مانع من الأخذ بها، حتى يثبت العكس، بل قد يجب العمل على ضوئها إذا ترتب على مخالفتها ضرر للآخرين، رفعاً للضرر، وسداً للذرائع، كما لو أثبتوا ضرر مادة معينة أو دواء معين بالأشخاص أو بالبيئة، «كالمواد المسببة للاحتباس الحراري، وكذلك يقال في كشوفات الكفرة العلمية والجغرافيا، وغيرها ومن يرد هذه الشهادات فهو كمن يركب السيارة والطائرة، وينكر أن يكون للسبب المادي – الذي طبع الله تعالى فيه هذه الخصائص – أثر في تسييرها، فهو جاهل جهلاً لا يفهم حقيقة الشيء، ثم هو ينكر على من يفهم آليته، فهو يعتقد اعتقاداً جازماً هذا الشيء على خلاف حقيقته، وكفى بذلك حمقاً وقبحاً. المسألة الثانية: الشهادة بالمؤهلات العلمية هذه الشهادات مبنية على دراسات واختبارات وقياسات معينة، وهي ليست شهادة فرد كافر، بل شهادة مؤسسة، كمدرسة أو جامعة أو شركة، وأكثر هذه المؤسسات عريقة في قدمها وإمكاناتها، وشهد لها القاصي والداني، وتعطي شهاداتها بناء على معطيات معينة، وهي تحافظ على سمعتها وصدقيتها، من أجل الاستمرار، أو حباً في مبدأ الصدق والأمانة، لما يجلبه لهم من استقرار واستمرار الربح، فهذه الشهادة مقبولة عقلاً وواقعاً وعرفاً عند المسلمين وعند غيرهم، والشرع لا يمنع من اعتبارها، سواء كانت صادرة عن مسلم أو كافر، ولم يثبت خلل فيها أو في مضمونها على العموم، وإذا كانت هناك حالات شاذة فهي نادة لا تكاد تذكر، والنادر لا عبرة له. الثالثة: شهادة المواصفات وهي بيان صدره الشركة المصنعة بمواصفات الشيء، ومكوناته، سواء كان دواء أو طعاماً أو بضاعة، فهذه الشهادة مقبولة وإن صدرت من دول كافرة أو أشخاص كفرة، وقد اعتاد الناس المسلمون وغيرهم العمل على أساسها بلا نكير، لأن الغالب فيها الصحة، والقرائن التي تحف بها تمنع الكذب فيها، لأن هذه المواصفات قابلة لإعادة التجربة والاختبار والتحقيق، ونقص الشهادة المصاحبة مما يضر بسمعة الشركة، ويؤدي إلى كساد بضاعتها. فهذه الشهادة مقبولة أياً كان مصدرها. الرابعة: شهادة المنشأ وهي شهادة يثبت فيها المنتج اسم البضاعة ومكوناتها ومكان صناعتها ومصدرها، فهذه الشهادة معتبرة، ويعمل بها ما لم يثبت العكس، لأن الشركات والدول تتحرج من الكذب في ذلك، خشية أن تشوه سمعتها وتكسد بضاعتها، بل إن بعض الدول شكلت هيئات خاصة لمراقبة الصنف المنتج، وتضع ختماً خاصاً من هيئة المواصفات والمقاييس يشهد بجودة هذه البضاعة، وبمطابقة هذه البضاعة للمواصفات السليمة أو المقاييس العالمية، فالعرف العالمي والمحلي قاض بقبولها والعمل بها، والشرع لا يمنع ذلك. الخامسة: شهادة الذبح يعتبر الذبح من الأشياء التي لا يمكن تجربتها مرة أخرى، ولا يمكن إعادة التحقق من صحة ذبح الحيوان، ويقع كثير من الناس في الحرج، هل يجوز أكل الحيوانات المذبوحة في بلاد الكفرة باعتبار أننا لا ندري هل ذبحت وفق الشريعة الإسلامية أولا؟ وهل الشهادة المصاحبة لهذه البائح أو المطبوعة عليها كافية في اعتبار هذه الذبائح حلالاً؟ للجواب على ذلك نقول: الأصل: قبول هذه الشهادات ما لم يوجد ما ينقضها، وقد ذكرنا ان للقرائن أثرها في رد الشهادة، سواء أكانت من مسلم أم من كافر، ثم إن ما نقل عن طريقة ذبح الحيوانات في الدول الكافرة ممن شاهدوه يدل على أنهم لا يستعملون الطرق الشرعية في الذبح! بل صممت معاملهم وأجهزتهم على ألا يذبح الحيوان بسكين، بل يصعق بالكهرباء صعقة عالية تفقده وعيه أو تقضي عليه، أو يغطس في ماء مغلي فيخنق، فإذا بطل حراكه نقل آلياً لتقطيعه وتعليبه، وقد نقل ذلك أكثر من شخص مسلم شاهد ذلك، حتى إن بعض المسلمين الذين يريدون أن يضحوا في البلدان الكافرة أيام عيد الأضحى يمنعون من الذبح في الشوارع، لكن يسمح لهم بعد صعق الدابة في المسالخ أن يبادروا إلى ذبحها بأيديهم تحليلاً لها، وهذا يعني إن كانت فيها روح مستقرة فهي أضحية وذبح حلال، وأما إن كانت منفودة المقاتل – أي لم يبق فيها حياة مستقرة عند ذبحها – فلا تحل، لأن الفقهاء اتفقوا على أن الزكاة لا تعمل إلا فيما كان فيه دليل على الحياة (165)، فشهادة المسلمين الذين حضروا طريقة الذبح في الدول الكافرة تعتبر شهادة مضادة ترد شهادات الكفار بصحة الذبح على الأقل في البلاد التي حضروها، ولا سيما إذا كانت من مسلم عدل، فهي مقدمة على شهادة الكافر بالحل، والله أعلم. يذكر أن الباحث فضل استخدام مصطلح «الكافر» عوضاً عن «غير المسلم»، الذي أصبح الأكثر تداولاً، بوصفه في نظر باحثين، أقرب لحال التعايش المنشودة بين الأديان والحضارات حالياً. إلا أن الباحثين الشرعيين يفضلون الإبقاء على المصطلحات الدينية كما هي، حتى وإن كان إطلاق غيرها مباحاً في نظر بعضهم.