بات القائمون على معارض الكتاب في العالم العربي يجدون في تراجع الرقابة الرسمية أو «الخاصة» عن منع الكتب في أحيان، فرصة للتندّر والمباهاة... فهذا التغاضي أو التساهل الذي تمنّ به عليهم الرقابة هو أشبه بالحدث اللامتوقع، لا سيما بعد أن بلغت الرقابة «مرتبة» غير معهودة سابقاً من الفوضى والعشوائية والجهل... لكنّ الرقابة العربية التي تتغاضى عن المنع مرّة تعمد إليه مرات لتنبه الجميع، مؤلفين وناشرين وقراء، أنها موجودة وأنّ تسامحها الموقت هذا لا يعني تراجعاً أو انكفاء. اما ذروة العشوائية في المنع فتتمثل في منع الرقابة كتباً كانت سمحت بها سابقاً أو كتباً تباع في المكتبات وكان حصل عليها القراء بسهولة. وقد يعود هذا التقلّب في مزاج الرقيب الى حال الشك الذي يساوره أمام كتب يعجز عن قراءتها، وربّما الى اضطراب في ذاكرته يجعله ينسى ما قام به سابقاً. لكن ذاكرة الرقيب العربي غالباً ما تكون منيعة ونادراً ما يفوتها قرار بخاصة إذا أوصت به مراجع عليا، سياسية أو «أهلية». لعل أطرف «بادرة» رقابية حصلت أخيراً هي إقدام الرقابة الكويتية على منع نحو مئة وعشرين كتاباً - دفعة واحدة - لأدباء مصريين معروفين، دون أن توضح أسباب هذا المنع أو حوافزه، مع أن أعمال هؤلاء الكتّاب كانت عرضت خلال أعوام سابقة في معرض الكتاب نفسه. ما الذي طرأ على «ذائقة» الرقيب الكويتي أو على مزاجه وجعله يبدّل رأيه في هؤلاء الكتّاب وأعمالهم؟ قد لا يكون مجدياً البحث عن أسباب خفية وراء هذا المنع، فالأسباب معروفة جداً ويمكن ردّها بسهولة الى الثقافة الظلامية التي تسود حيناً ثم تتوارى حيناً. ولئن اعتاد بعض «الرقباء» العمل سرّاً في المعارض مانعين ما يحلو لهم منعه، فهم هذه المرّة خرجوا الى العلانية ومنعوا هذا العدد الكبير من الكتب الآتية من مصر وحدها. وقد تكون الرقابة السرّية التي تمارس في معارض كثيرة هي الأبشع لأنّها تتم خفية ولا تلقى أي احتجاج أو استنكار. وباتت أجهزة الرقابة تمارسها دوماً دون وجل أو خفر. كم كان مفاجئاً فعلاً أن تمنع روايات وقصص لإبراهيم أصلان، هذا الروائي الشديد اللطافة والعذوبة، الذي لم يسع يوماً الى الهتك والهدم والى الإساءة الى الأخلاق العامة وسواها. وقد يزداد العجب حين نعلم أن أعمالاً أخرى منعت لكتّاب مثل خيري شلبي وجمال الغيطاني ورضوى عاشور وفاروق جويدة ويوسف القعيد وعزّت القمحاوي وسواهم... ماذا كتب هؤلاء ليمنعوا هكذا في جريرة واحدة؟ ألم تعرض كتبهم سابقاً في معرض الكويت؟ ما أغرب أمر هذه الرقابة التي تخبط خبط عشواء فتمنع ما تمنع دون أن تبرّر أو تشرح. لا ينام الرقيب العربي ولا تغمض له عين، قد «يتناوم» في أحيان أو يغضّ النظر، لكنه ساهر أبداً مثل عسس الليل، عينه على الأخلاق العامة وعلى التقاليد والمبادئ، فإذا جرؤ أحد على المساس بها انقض عليه انقضاض الجلاد على فريسته، دون أن يسأله أو يسائله، فالتهمة جاهزة والمتهم لا حق له في الاعتراض أو الاحتجاج. ومن أخبار الرقابة الطريفة أيضاً إصرار الأمن العام اللبناني على منع فيلم بديع اتهمه ب «إثارة» النعرات الطائفية. وما أدراك ما النعرات الطائفية هذه في لبنان. ديغول عيد سينمائي شاب درس في فرنسا وعمل مع يوسف شاهين، وعندما عاد الى لبنان شاء أن يعالج جرحاً في روحه لم يندمل، هو الذي قُتلت عائلته أمام عينيه في إحدى قرى الشمال اللبناني وكان لا يزال صغيراً. قصد المخرج قريته مع فريقه الفني وراح يبحث عن «القتلة» الذين تمّ العفو عنهم رسمياً، ليصالحهم ويتصالح مع ماضيه المأسوي. ولمّا قابل قاتل أمّه الذي لم ينسَ وجهه على رغم مرور ثلاثين عاماً على المجزرة، ارتبك الرجل القاتل هذا، ولم يستطع أن يلفظ كلمة واحدة أمام الكاميرا. كانت تلك اللحظات رهيبة جداً، بما رافقها من صمت واضطراب هما صمت القاتل واضطرابه أمام كاميرا «الضحية». بدا الفيلم بديعاً وجريئاً جداً وغايته كما يدل عنوانه (شو صار؟) استعادة الماضي الأليم لتخطيه ونسيانه والشفاء منه. ولم يحتوِ الفيلم أي تحريض طائفي، ولم يحمل أي دعوة الى الانتقام. وعلى خلاف ما تهيّأ لرجال الأمن اللبناني المولجين بالرقابة، بدا الفيلم يدعو الى التخلّص من هذا الإرث الدموي الثقيل والى جعله «صوراً» من الماضي. أخطأ فعلاً جهاز الرقابة في قراءة الفيلم، ولم يسع الى استيعاب أبعاده والرسالة التي يؤدّيها. وهذا دأبه دوماً هو الذي يعجز عن مواجهة الحقيقة، حقيقة الحرب والمجازر التي حصلت والقتل الطائفي الذي راج طوال أعوام. يصرّ الأمن العام على تجاهل حقيقة الحرب اللبنانية وطائفيتها ودمويتها ويريد من الفنانين والكتّاب أن يحرّفوا «التاريخ» وأن يكونوا «شهود زور» على ما حصل... فاللبنانيون في نظره لم يتقاتلوا ولم يتباغضوا ولم يتذابحوا... وهنا تكمن «معضلة» الرقابة اللبنانية، المعضلة التي لا شفاء منها، مثل الطائفية نفسها والمذهبية والبغضاء الأهلية والكراهية المتبادلة... أما أطرف خبر عن الرقابة العربية فهو ما وردنا أخيراً عبر «الإيميل» الذي أصبح خير متنفس ورسول، ومفاده أن الرقيب السوري منع الشاعرة رشا عمران من السفر خارج الأراضي السورية حتى إشعار آخر، و «السبب مجهووووووول» كما كتبت لنا. ورشا عمران شاعرة رقيقة، عذبة الصوت وخفيضة النبرة، وقد أسست أحد أهم المهرجانات الشعرية في سورية وهو «مهرجان السنديان» الذي بات يجذب الشعراء من كل أنحاء العالم. لا أحد يعلم أين «ستضرب» الرقابة العربية غداً وكيف ستلقي قبضتها وعلى ماذا وعلى مَن.