تؤول الرواية العالم وترفضه، وتفتح ذراعيها لعالم مرغوب فيه لا يأتي. يتراءى بين التأويل العاجز والرغبة المهزومة كائن حالم يضيق مكانه، وزمن متحوّل مستبد يأتي بما يريد وينهر خارجه بلا رحمة. عالج فواز حداد شظايا الأحلام في روايته «المترجم الخائن»، حيث على المثقف الذي لا يساكن السلطة أن يأكل أوراقه، وتأمل اجتثاث الأحلام في عمله الجديد «جنود الله»، هؤلاء الذين يلتبسون بإرادة عليا ويعيدون هندسة الخليقة. ومع أن بين الموضوعين ما يوحي بانفصالهما، فإن بينهما جسراً ثابتاً موحشاً، لأن الاجتهاد في حرق القيم الثقافية يستعجل وصول الكارثة، مثلما أن إغلاق الأبواب أمام الرغبات الدنيوية، يفتح أبواب الأوهام القاتلة. من هم «جنود الله»، كما جاء في رواية حداد الصادرة حديثاً عن دار رياض الريس؟ إنهم هؤلاء الذين يحتكرون حقيقة مقدسة، تسمح لهم أن يفصلوا بين الحق والصواب فصلاً باتراً، وأن يقايضوا «حياتهم المؤمنة»، وهم «يستشهدون»، بموت غيرالمؤمنين. فلا وجود ل «جنود الله» إلا بوجود «جنود الشيطان»، السائرين بخط مستقيم إلى جهنم. وإذا كائن الروائي، وهو يرثي الثقافة، انطلق من معيش عربي، واتخذّ له المكان الذي يشاء، فقد آثر في «جنود الله» أن يذهب إلى بغداد، حيث بارود «الإيمان المتعصّب» يرمّد الأشجار والعيون والكتب. وسع الروائي، برهافة عالية، حيّز تأمله، ذلك أن «جنود الله» يتوزعون على «مسلمين» وعلى بعض جنود الاحتلال الأميركي، الذين لهم «رسالة خاصة»، توحد بين نصرة الحق وحرق البشر وتساوي بين «الإرهابيين» والأبرياء. رصد فواز حداد في روايته الجديدة، موضوعاً راهناً، وأعلن عن موهبته الروائية، قبل كتابة الموضوع وبعده. فوراء العنوان المباشر عنوان آخر، ووراء العنوانين حكايات متنوعة وخطاب ايديولوجي وأكثر من تقرير صحافي وفجيعة. بنى الروائي السوري موضوعه من قصص متنوعة ومفاهيم ايديولوجية، متوسلاً تقنيات فنية تسرد حكاية «جنود الله»، وتعطف عليها متواليات حكائية، قريبة منها وبعيدة عنها في آن: السيرة الذاتية لإنسان مستنير «تقدمي» كما كان يقال، مكَر به الزمن وردّه من أزمنة الأحلام إلى زمن الكوابيس، وسيرة جيل من المثقفين سقطوا، بكرامة، في منتصف الطريق وسقطوا، بلا كرامة، في نهايته، وسيرة الأبوّة والبنوّة الخاسرة، التي تجعل الابن يرى في أبيه ضالاً لا طاعة له، وتضع في روح الأب خسارة مستديمة، ورحلة في بغداد و «ديار المؤمنين»، ومواجهة مع أبي مصعب الزرقاوي، الذي ساوت حياته خمسة وعشرين مليون دولار، وتجوّالاً في المنطقة الخضراء، أخذ شكل تقرير صحافي دقيق التفاصيل، وحكاية بوليسية... أعطى الروائي مواده المتنوعة شكلاً هندسياً، ناشراً تشاؤماً واسعاً، وتاركاً للأمل رذاذاً من الاحتمال. أراد حداد خطاباً روائياً يجمع بين الفجيعة والرعب محيلاً على هزيمة التنوير، ومترجماً الهزيمة بأشباح تدّعي «الحكمة»، وتقتات بجثة العقل والتسامح. وهذا الخطاب، الذي يرى «جنود الله» في أبناء الظلام المنتصر، جعل من الرواية، في منطقها الداخلي، سيرة ذاتية للتنوير المهزوم، قبل أن تكون تسجيلاً، بوعي أسيان، لثقافة الموت والتجارة بالمقدسات. أفضى وضوح الخطاب الروائي إلى شكل هندسي، يقترح المقدمات ويقرّر النتائج. فلا مكان للمجاني في رواية عابقة بالتشاؤم، تُستهل بالثناء على العماء وتنغلق على تداعي الأمل. قسّم الروائي عمله إلى ثلاثة أجزاء عناوينها: طريق آخر إلى الجنة، رسائل من بغداد، وحافة الجحيم. تساوي صفحات الجزء الأول صفحات الجزء الثالث، ويأخذ الجزء الثاني مساحة أكثر اتساعاً. تضمَّن توزيع الصفحات، كما العناوين، بعداً دلالياً، ذلك ان الطريق إلى الجنة، في الوهم المغلق، لا يختلف عن الطريق إلى الجحيم، الأمر الذي يعطي الطريقين صفحات متساوية. أما البرهان فقائم في «رسائل بغداد»، التي يصل الإنسان إليها سليماً ويخرج حطاماً. أدرج الروائي في العنوان الأول سخرية سوداء، فقد كان لأهل التنوير طريقهم الخاص إلى الفردوس، الذي راهن على ترويض التاريخ والنجوم. غير أن معنى الأجزاء الثلاثة في عناوينها المختلفة، لا يتضح إلا بالاستهلال الكثيف، الذي وزّعه المؤلف على الأجزاء الثلاثة بمقادير متساوية تقول شيئاً واحداً يطرد الأمل. كما لو كان الاستهلال الثلاثي، في حرفه المغاير وكلماته المحدودة، جواباً نهائياً لا تغيير فيه، تعقبه حكايات متشابهة تبرهن عن «صحته». نقرأ في المستهل الأول « «أنا لا أرغب في أن أرى، أما البصيرة فما أصابها أشد من العمى»، وفي المستهل الثاني: «انني هوجمت على حين غرة، وحوصرت وحيداً مع هواجس لا أدري عنها شيئاً، سوى أنها متشائمة»، أما المستهل الثالث فيقول: «أسلست قيادي للرعب. أدرك، وقد فات الأوان، أنني ممسوس بما هو قادم». دلالات متطابقة أنتج التصور اليقيني، الذي يرى العالم في خرابه، دلالات متطابقة، توطّد ما يريده اليقين بأشكال ثلاثة: أولها تطابق الصور المختلفة، التي تتوقف أمام بيت عراقي يحترق، تتلوه أوصال بشرية «بغدادية» مبعثرة، يعقبها اغتيال إنسان غريب، خطفه «علاّس» (انسان يخطف انساناً اجنبياً مشبوهاً ويبيعه الى طرف يبيعه بدوره الى طرف آخر) وباعه إلى من يتاجر به. تتكاثر الصور وتحكي خراباً لا خروج منه. بعد الصور المتطابقة المعنى، تأتي الرحلة الخاسرة، حيث البحث عن الابن «المجاهد الضائع» يعلن عن ضياعه الأخير. فلا مكان للمفاجئ في جحيم يكتفي بلون واحد، تاركاً للفردوس تعدّد الألوان. يتمثل الشكل الثالث في مسّار «الباحث» الوحيد الاتجاه، الذي يخبر عن ضياع الأب والابن معاً. أدخل الروائي في نصه عناصر الحب والصداقة و«الغد» محاولاً، ربما، تخفيف تشاؤم صارم لا يمكن تخفيفه. ولعل ثقل اليقين بنهاية عالم وصعود غيره، هو الذي وضع في رواية «جنود الله» منطق الأطروحة والبرهان، الذي يصف وجوه «الإيمان القاتل» ويشرحها ببراهين دامية: الإيمان المغلق الذي يكفّر «المتهم» قبل مساءلته، أخذ الأبرياء بجريرة غيرهم في «عالم جاهلي» علاجه النار، ومبدأ الانفصال الشامل الذي يواجه «الشياطين» بالملائكة،.. كل فكرة لها صورها، وكل صورة، بلغة الجمع، تشرح فكرة، تستكمل بفكرة - صورة، والصور جميعاً ترسم الطريق إلى الجحيم. ومع أن التصوّر اليقيني دفع إلى نص روائي خطّي الاتجاه، استطاع فواز حدّاد، معتمداً على خبرة روائية واسعة وحاذقة، أن يكسر الخطي والمستقيم والرتيب المحتمل، آخذاً بتقنيات فنية متعددة: تقنية الرسائل، وهي مركز الجزء الثاني، التي تقيم حواراً بين داخل الإنسان وخارجه، وتبني حواراً موازياً بين المكان الضيق المحاصر ومكان واسع بعيد، وبين الزمن الراهن وزمن مضى، وبين الروح المختنقة وعجز اللغة. وإضافة إلى ذلك اصطنع الروائي رواية داخل رواية، واضعاً في الرحلة الواسعة «رحلة فرعية»، قوامها رواية «بوليسيّة» تمدّ العمل بدينامية واسعة. ظهرت التقنية الثالثة في تكثير مدهش للشخصيات المتنوعة، التي تأتي كالطلقات وتتلاشى في الدخان. وهناك اللغة المثقفة، التي تمسك بجوهر موضوعها، جامعة بين النظر والنظرية ودواخل إنسان مغترب، يعالج غربته بمونولوج طويل. أنتج النص في شخصياته وتقنياته ولغته فضاء واسعاً، يتضمن الخطاب الروائي «الجاهز» ويفيض عليه كثيراً. ولهذا تقرأ الرواية كنصين: نص عن «جنود الله»، ونص واسع عن الإنسان المستلب الذي مكر به زمانه وألقاه على قارعة الطريق، بل أن النص الأول يستمد كل كثافته من النص الثاني، الذي يقرأ غربة إنسان فقد الاختيار. تنهض الرواية، في عناصرها المتعددة، على مفهوم :الرحلة الموزعة على رحلة طليقة في الذات، قوامها السارد الممتلئ بأحلامه في زمن، وبانكساره في زمن آخر، ورحلة في المكان، تبدأ من أكثر من مكان وتلتف حول ذاتها طويلاً في بغداد، وتنتهي إلى رعب مفتوح. تساوي الرحلة المكانية، زمنياً، بحث الأب عن ابنه، وتتكشّف بعد انقضائها رحلة في العدم، لأن تقويض «جنود الله» لمعنى الأبوة والنبوّة يلغي البحث ويستعجل الكارثة. ولهذا يحتل الإنسان المخذول، المتحدث بصيغة المتكلّم، الفضاء الروائي كله، فهو صورة عن ذاته وعن غيره، أو صورة عن الفاقد والمفقود معاً. فإذا كان عبد الحكيم قاسم، في روايته «المهدي»، تأمل «المؤمن المتعصّب» في فرديته الواضحة، فقد آثر حداد أن يرسمه في آثاره الدامية. ولهذا يتلامح «جنود الله» في دخان حرائقهم، ولا تظهر وجوههم إلا قليلاً، وإن كانت تظهر حارقة الوضوح في مآل الحالم المهزوم. نقضت رواية فواز حداد شمولية «جنود الله» مرتين: مرة أولى وهي ترفض «أبلسة الآخر» في التصور الإيماني المستبد، الذي يحكم بالموت على كل ما يغايره، صبياً مارقاً يغضب عليه «الحراس»، أو شيخاً يتسلى بقتله «جنود الله المسيحيين». ونقضته ثانية بتصور حواري نسبي المعايير، إذ أميركية الضابط الأميركي لا تجعله شريراً، وإذ لقبه العسكري لا يمحو إنسانيته. بل أن مصير الضابط الأميركي الباحث عن الحقيقة لا يختلف كثيراً عن مصير «الأب السوري» الباحث عن ابنه. أنْسَنَ الروائي شخصياته ولم يؤبلس أحداً، فالشر يأتي من العلاقات لا من البشر، ولكل إنسان بعده الغامض وأسبابه القابلة للفهم والمساءلة، بما في ذلك «جنود الله» الذين ذهبوا إلى «طريقهم»، بعد أن أغلقت في وجوههم طرق أخرى. فمثلما كان ل«جنود التقدم» طرقهم المزهرة المفترضة، فإن ل «جنود الله» طرقهم أيضاً، وإن اختلف معنى الطريق. ولعل في نسبية الأحكام، المدرجة في خطاب روائي يقيني التشاؤم، ما يبعث على المفارقة، ذلك أن نسبية التصور تترك مكاناً للأمل والاحتمال، على خلاف اليقين العابق بالتشاؤم، المكتفي بلون يتاخم الموات. لكن التفاؤل المحتمل يحتاج إلى مكان لا يكتسحه «جنود الله». شهدت الرواية على زمنها «العربي» بأشكال ثلاثة: اغتراب زمن التعصب، تاريخياً، عن زمن القيم الكونية القائلة بالنسبية والتعدّد والاحتمال، واغتراب إنساني واسع، يتجاوز تاريخه، يتمثّل بالأبناء الذين يمسحون آثار آبائهم. أمّا الشكل الثالث فعنوانه: الارتباك، الذي جعل الروائي يوطّد التشاؤم ويحاول، عبثاً، تخفيفه، محاولاً توليد الأمل في زمن اللاأمل. وربما يكون هذا الارتباك الوجه الأكثر قوة وإنارة في الرواية، ذلك أن عبث بعض الأزمنة لا يمكن القبض عليه تماماً. أعطى فواز حداد في روايته «جنود الله» نصاً كبيراً عن زمانه، يسرد ويصف ويحلّل ويربك ويترك للقارئ حرية الحكم والتأويل، مؤكداً معنى القول الروائي الذي لا يأتلف مع الأحادي والأحكام الجاهزة. «جنود الله» رواية تبحث عن الحقيقة، وتشهد على صعوبة البحث عن الحقيقة في زمن منهار، يساوي بين حرية الفكر والخطيئة.