تُمثّل «الذروة» في رواية الكاتبة والشاعرة الجزائرية المعروفة ربيعة الجلطي ذروة الأشياء وأضدادها معاً. فالذروة إنّما هي كلمة مزدوجة الدلالة والمعنى، وقد اختارتها الكاتبة - انطلاقاً من ذلك - عنواناً لافتاً لروايتها الصادرة حديثاً عن «دار الآداب». تستجيب الرواية في مقامها العام لتلك الإزدواجية من خلال طرحها فكرتي «الخير والشر»، وهي تُمسك بيد القارئ لتدلّه على الصورة الحقيقية للخير المتجسدّ في شخصية البطلة «أندلس» والصورة الحقيقية للشرّ المتجسّد في شخصية غريمتها «الياقوت». وقد لعبت هندسة الرواية الداخلية القائمة على هذه المواجهة العلنية عبر تقابل الخطوط والانفعالات الفكرية والنفسية مع الانفعالات الجسدية، دوراً في تكريس ثنائية الخير والشرّ. إلاّ أنّ شخوص الرواية الذين يتباعدون في خيرهم وشرّهم يتلاقون في مهمّة بحثهم المتواصل عن السعادة المفقودة والسلام الغائب في النفوس. الشخصيات جميعها مُحاصرة ومهدّدة من قمّة الهرم إلى قاعدته، فالعامّة تعيش حياة آلية قسرية غير آبهة بما يحصل، والشباب يرمون بنفسهم في البحر بهدف الهجرة من البلد الذي قتل طموحاتهم وأحلامهم، والنساء اللواتي يختلفن في طبعائهن وأحلامهن ومسالكهنّ يقضين حياة متشابهة يسودها الانتظار والقلق... حتى الحاكم، على رغم كلّ الصلاحيات والإمكانات والامتيازات الممنوحة له، هو نفسه مأزوم وعاجز عن الوصول إلى حلمه المتجسّد في معشوقته أندلس التي يصفها بأنّها «الذروة». تكتب ربيعة جلطي الآتية من عالم الشعر روايتها الأولى بعد سبعة دواوين، بحرفية روائية وروح شاعرة. لقد استطاعت رسم لوحة مكتملة عن الحياة بكافة مجرياتها بلغة مكثفّة لا زوائد فيها ولا إضافات. فقد تطرّقت إلى موضوعات تاريخية، سياسية، اجتماعية، اقتصادية عبر أسلوب روائي لا يخلو من سخرية سوداء تتناغم مع الخيط الدرامي. نجحت الكاتبة في وضع سبابتها على آفات المجتمع الجزائري بل العربي كالفقر والبطالة والهجرة والانتظار وكذلك الفساد الأخلاقي والسياسي تحت حكم أنظمة ديكتاتورية تهتم بمصالحها من دون اكتراث بظروف شعوبها القاسية والمؤلمة. وتمكنّت الكاتبة عبر لغتها الهادئة التي تُخبّئ في طيّاتها الكثير من الغضب والثورة والتمرّد من أن تضع القارئ العربي وجهاً لوجه أمام همومه ومشاكله الحياتية من دون أن تشعره بثقل الموضوعات المطروحة نظراً إلى الأسلوب التهكمي الذي اختصّته. فهي عندما انتقدت السلطة وإغراءات المناصب السياسية عملت مثلاً على إسناد الكلام إلى الحاجبة الأولى وصاحبة الكرسي والصفارة في البلاط «الياقوت»، أي الشخصية المعروفة بقلّة حيائها وعباراتها النابية وكلامها البذيء. تحفر الكاتبة هنا في الممنوع، فتأخذ من بعض شخصياتها أبواقاً لتُخرج من خلالهم صوتها الداخليّ وأفكارها الدفينة واحتجاجاتها المحظورة، فهي تفضح عالم السياسة القذر عبر إحدى أبرز العارفات بدهاليزه المتشعبّة «الياقوت» التي تكشف خفايا هذا العالم وأسراره: «الناس لا يعرفون شيئاً عمّا يدور بين فكيّ الرحى السياسية... لا شيء غير الكذب ولا مقدار ذرّة من الحقيقة». وتستهزئ كذلك من تمسّك الحكّام الديكتاتوريين بالحياة من أجل مناصبهم وكراسيهم وخوفهم الشديد من الموت. لعبة التناقضات إنّ صورة الحاكم في «الذروة» تستحقّ التوقّف عندها مطوّلاً لما تحمل من دلالات ورموز وإيحاءات مكثفة. هذا فضلاً عن أنّ اهتمام الكاتبة في تصوير شخصيته وتقصّد إقحامه في حوارات كلّ الشخصيات عطفاً على نقل بعض الأحداث التاريخية والتركيز على إبراز التناقضات بين مجتمعي السياسيين والمواطنين. كلّ هذا وأكثر جعل من رواية ربيعة جلطي مؤهلّة لأن تُصنّف رواية سياسية بامتياز. فالحاكم هو في الأساس شخصية متهاوية القدرات، لا يظهر كثيراً أمام عامّة شعبه كي لا يرونه ذابلاً في خريف عمره، الأمر الذي قد يُنبّههم إلى نهاية أمده. ولأنّه حريص جداً على التمسّك بحياته ولأنّ الفعل الجنسي هو أولاً وأخيراً فعل حياة وتجدّد واستمرار، فإنّ «صاحب الغلالة» يُحاول إعطاء عجزه الجنسي حججاً وذرائع كعدم إيجاد المرأة الملهمة حتى لا يستسلم لفكرة قصوره وبالتالي قرب أجله وخاتمته. ولصاحب الغلالة دور مهم في حبكة الرواية لكونه يُمثّل الحافز الذي يُعيد اللقاء بين بطلة الرواية الأساسية «أندلس» وزميلتيها في الدراسة «الياقوت» و «سعدية» وكانت فرّقتهن ظروف الحياة المختلفة. فالبطلة أندلس التي تُمسك طرف السرد في أكثر فصول الرواية هي شخصية استثنائية في سحرها وجمالها وفطنتها وثقافتها، ورثت عن والدتها أنوثتها وسحرها وغموضها وعن والدها وسامته وأدبه وفكره. لذا، طالما كانت مثار إعجاب الشبّان وحسد البنات. أمّا زميلتا سعدية والياقوت فكانتا الأكثر كرهاً لها وغيرةً منها لكونها تُمثّل حلم أيّ شاب مهما كانت مواصفاته خارقة. وبعد التخرّج من المدرسة وتوجّه كلّ واحدة منهنّ لمتابعة حياتها الخاصة، بقيت «أندلس» - التي أصبحت في ما بعد فنانة تشكيلية - هي الغريمة الأولى ل «الياقوت» التي طالما أتت على ذكرها في القصر إلى أن سمع الحاكم باسمها وبجمالها وتمنّعها فاشترى لها لوحة كبيرة علّقها فوق سريره ومن ثمّ نصّبها في مركز مهم داخل قصره. فحاولت «الياقوت» أن تُنسيه «أندلس» من خلال «سعديّة» التي خضعت للكثير من الجراحات التجميلية النفسية والفكرية لتُصبح على هيئة «أندلس»، ولكن بعد فشلها في مهمتها قصدت غريمتها الأولى في مكتبها الجديد داخل القصر الملكي وروت لها أسرار الحاكم الخاصة ورغبته في التقرّب منها. إلاّ أنّها تُصدم برفض «أندلس» للحاكم وللعمل السياسي الرفيع الذي اختاره لها. وتنتهي الرواية بمشهدية ميلودرامية تتجلّى في زيارة الزعيم لبيت أندلس وطلب يدها، إلى أن يتزامن رفضها له وإعلام الحاكم عبر مكالمة هاتفية بحصول انقلاب عسكري أدّى الى تولّي خادمه المخنّث حكم البلاد. أمّا تغيّر الحاكم فلم يُغيّر كثيراً في حالة الحكم، إذ أنّ العاجز تبدّل بآخر مُخنّث، والبرلمانيون الذين كانوا يهتفون لصاحب الغلالة المخلوع تجمهروا وراء الحاكم الجديد «يرفعون الأيدي عالياً مغمضي العيون». والشعب الذي يعيش حالة برودة مُزمنة لم يحرّك ساكناً على رغم الحدث المذهل الذي أصاب البلاد، بل اكتفى الناس بمتابعة التظاهرات الحيّة عبر النوافذ والشرفات والأرصفة إلى أن ملّوا ودخلوا بيوتهم وأغلقوا الباب وكأنّهم يعيشون خارج الحياة . الرواية هي فضح صريح ومُعلن للحياة السياسية وللعاملين فيها، ف «الياقوت» التي أصبحت المرأة الأولى في قصر الزعيم ليست سوى امرأة «بوهيمية من الشارع»، لا مبادئ لها ولا خطوط حمراء. فهي لم تكن تعرف سوى حياة العبث والسهر والتسكّع إلى أن أوصلتها علاقاتها عير النظيفة إلى منصبها. أمّا المستقيمون أصحاب الضمير والقيم والمبادئ الذين أوصلهم تفوقهم إلى مناصب عالية فلم يتمكنوا من الاندماج في العمل السياسي ذي الطرق الملتوية. وهذه هي حال زميل «أندلس» في الدراسة عبدالنور وكذلك «زهيّة» - عمّة «أندلس» والمترجمة الشخصية للزعيم - التي تُعاني حالة ازدراء وقرف من الجوّ الفاسد الذي يُحيط بها. تتميّز شخصيات الرواية في شكل عام بأنها مشحونة بأبعاد رمزية كثيفة، وتبدأ لعبة الرمز تلك من خلال الأسماء المختارة بعناية لتناسب كلّ شخصية من شخصيات الرواية. وهذا يستجيب أصلاً إلى تعريف «التسمية» لدى رولان بارت الذي يعتبر أنّ «اسم العلم وسيلة نُقايض بها مجموعة من الكلمات باسم واحد (اسم العلم)، على أساس التسليم بالمساواة بين طرفي المقايضة». ف «أندلس» تحمل اسم المكان الذي حقّق فيها العرب ذروتهم وبطلة الرواية «أندلس» هي الشخصية المثالية التي وصلت من خلال صفاتها الحميدة إلى الذروة. أمّا «الياقوت» فتحمل اسم أحد أقوى الأحجار المعروفة بلونها الأحمر القاني والتي تعود إلى أصل صحراوي بركاني حارّ، وهي أشدّ الجواهر صقلاً بحيث أنها لا تذوب في النار بل تشتدّ احمراراً. وهذا ينطبق أيضاً على بقية أسماء شخصيات الرواية الأساسية والثانوية مثل «سعديّة»، «أمازيغ»، «سي عربي»، «زهيّة» وغيرهم... أمّا بالنسبة إلى الحاكم، فارتأت الكاتبة الإشارة إليه بلقب «صاحب الغلالة» وليس باسم علم معروف، ولهذا دلالة على رغبة في تعميم هذه الشخصية وإعطائها صفة الشمولية من دون الشخصيات الأخرى. لا شكّ في أنّ المرأة هي المحرّك الرئيسي في هذه الرواية التي تتناول حيوات خمس نساء يتخاصمن ويتقاسمن عالماً من الأحلام والأوهام والذكور. وإذا كانت «أندلس» هي خصم «الياقوت» و «سعدية»، إلاّ أنّها مرآة جدّتها «لالة أندلس» التي ورثت عنها اسمها وصفاتها وخصائلها. تُفكّر الحفيدة بعقل جدتها وتحيا بقلبها وتتمتع بصفاتها. ومصائرهما هي واحدة أيضاً، فكما أحبّت الجدّة زوجها الثائر «سي عربي» وقضت حياتها تنتظره بعدما قتله المستعمرون إلى أن لحقت به، كذلك عاشت «أندلس» في انتظار حبيبها القيادي الشاب في الحزب المعارض للنظام «أمازيغ» الذي سافر إلى موسكو ولم يعد. وبالتطرّق إلى المرأة كثيمة في رواية جلطي، يجدر التنويه بأنّ صورة المرأة هنا لا تعكس الصورة التقليدية للمرأة في الكتابات النسوية لأنّها لا تطرح مظلومية المرأة كقضية ضائعة في عالم ذكوري وإنما تطرح قضية الإنسان في عالم غرائزي فاسد يغرق في يمّ النفاق السياسي والتفاوت الاجتماعي - الاقتصادي.