الصراع الدموي المخرب لن يكون من الممكن تجنبه إلا بإعادة طرح «المشروع الوطني الجامع» الذي اكتشفت مجتمعات عربية عدة – من بينها المجتمع العراقي – أنها لن تستطيع العيش من دونه، وإن البديل عنه ليس «بديلاً» بل خراباً ودماراً وتحويلاً للمجتمع إلى حرب أهلية يستحيل مع استمرارها بناء منازل، أو تعليم أبناء، أو الذهاب إلى عمل ... أو أي نشاط من نشاطات الحياة العادية... الهادئة... الجميلة... وليست فكرة «المشروع الوطني الجامع» بالفكرة الطارئة أو الوافدة على الوعي العربي، فقد طرحتها الحركة الوطنية المصرية الرائدة منذ ثورة 1919 بقيادة سعد زغلول تحت شعار: الدين لله والوطن للجميع. لقد ظل فقهاء السنّة والشيعة يتجادلون في شأن المذهبين من دون أن يصلوا إلى نتيجة. فكلٌ على اعتقاده، وهو أمر طبيعي في الحكم الدستوري الديموقراطي الذي تقبّله علماء الشيعة في النجف وإيران منذ عام 1906 وكان في طليعتهم الشيخ فضل الله النوري، والميرزا حسن الاشتياني، والسيد عبدالحسين الشيرازي الذي أصبح نائباً في مجلس الشورى وألف كتاباً حول «المشروطة المشروعة»، أي الدستور، والشيخ كاظم الخراساني الذي تقدم تلميذه محمد حسين النائيني خطوة متقدمة أخرى بإصداره كتابه الفكري الهام «تنبيه الأمة وتنزيه الملة». ومن قوة تمسك علماء الشيعة بالحكم الدستوري القائم على فصل السلطات كما أبان النائيني، أن المرجع الأعلى للشيعة في حوزة النجف الشيخ كاظم الآخوند الخراساني أصدر بياناً للشعب الإيراني – عندما تم الانقلاب الشاهاني على دستور 1906 الذي أصبح أساساً لنظام الجمهورية الإسلامية عام 1979 – دعاه فيه إلى التمسك بالدستور والمجلس المنبثق منه. وقد تجادل متكلمو الإسلام مع متكلمي اليهودية والنصرانية جدالاً ما زالت أصداؤه ترن في شعر أبي العلاء: في اللاذقية ضجة. فإلى متى ننشغل بهذا الجدال العقيم؟ وأية نتيجة نتصور تحقيقها؟ لن يكون لدينا سلم اجتماعي داخلي إلا إذا قررنا من جديد التعايش في ظل المشروع الوطني الجامع المحكوم بالنظام الديموقراطي الدستوري، واحتفظ كل منا باعتقاده الذي يمكن أن يطوره بنفسه طبقاً لقناعاته الذاتية... وفي هذا الشهر، تمر علينا الذكرى الثمانون لقيام المملكة العربية السعودية على يد مليكها المؤسس عبدالعزيز آل سعود، الذي أقامها على أساس الوحدة الوطنية، وعمل أبناؤه على ترسيخها جيلاً بعد جيل إلى أن تولاها ابنه الملك المصلح عبدالله بن عبدالعزيز، فأخذ يعمل على رفد «الدولة الوطنية» بما يقويها لترقى موطناً للإنسان. صحيح أن مفهوم الوطن يتعرض لتحديات صعبة ليس أقلها موقف بعض الجهات الدينية من المفهوم الوطني، على رغم أن الرسول الأكرم كتب «صحيفة المدينة» التي حملت اسم البلد الذي هاجر إليه فحسب، مقتصرة على أحوال المقيمين فيه من قبائل مسلمة ووثنية ويهودية. والمؤسف أن هذا التعاقد النبوي السياسي الأول في تاريخ الإسلام والذي وضع تمييزاً واضحاً بين «المجتمع الديني» المقتصر على المؤمنين و «المجتمع السياسي» الذي شمل المسلمين والوثنيين واليهود وسائر المتعاقدين سياسياً، نقول إن هذه «الوثيقة» النبوية التأسيسية صارت مغيبة ومسكوتاً عنها في تأسيس الفكر السياسي في الإسلام، وأصبح المرجع المكرور كتاب «الأحكام السلطانية» لأبي الحسن المشهور بالمارودي والمتوفى عام 450ه أي منتصف القرن الخامس للهجرة – بعد مئات السنين من ظهور الإسلام – هو «المرجع»، ولم يكن أبو الحسن المارودي، بطبيعة الحال، من الصحابة ولا من التابعين ولا فقيهاً معترفاً به، وعمد إلى تعداد الأحكام «السلطانية»، أي توصيف ملامح ومعالم الأمر الواقع الذي آل إليه الحكم السلطاني بعد قرون من ظهور الإسلام. وذلك أحد العوامل المؤدية إلى إفقار الفكر السياسي الإسلامي وإفراغه من مصادره الخصبة، نظراً إلى غلبة نظرية الدولة الدينية الخالصة التي لم يرق لها تمييز صحيفة المدينة بين «المجتمع الديني» و «المجتمع السياسي»، فأسقطتها من بين المصادر الأساسية المؤسسة للفكر السياسي في الإسلام، وأصبح المسلمون في جهل تام في شأن «صحيفة المدينة» التي لم يسمع بها أغلبهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن العناصر المؤمنة بالمشروع الوطني لم تعد تمثل قوة سياسية فاعلة في مجتمعاتها ولم تعد تمتلك «أسناناً سياسية» لتحويل فكرتها إلى واقع، وإن كان تصويت قطاع مهم من الناخبين العراقيين، على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم المذهبية والدينية، من أجل «المشروع الوطني الجامع» دليلاً لا ينكر على أن المجتمعات العربية، بعد تجاربها المرة مع المشروعات التجزيئية والتفتيتية، لا بد من أن تصحو لنفسها وتعود إلى الفكرة الجامعة والمنقذة. وقبل التجربة العراقية، نجد هذه الفكرة تعبر عن نفسها في «المشروع الإصلاحي» لملك البحرين حمد بن عيسى آل خليفة، وتتمثل في ميثاق عمل وطني ودستور محدّث قامت بمقتضاه مختلف المؤسسات الدستورية التي تتهيأ لدورة جديدة ثالثة من الانتخابات هذا العام. والمشروع الوطني «الجامع» الذي تضمنه المشروع الإصلاحي للملك حمد هو «جامع» بمعنى الكلمة... جامع لمختلف ألوان الطيف السياسي في البحرين، حيث يشارك فيه المستقلون والليبراليون والكتل الدينية كالأصالة والوفاق والمنبر (الإخوان المسلمون)، واليساريون، إذا حالفهم الحظ، وجميع من ينتخبهم الناخبون البحرينيون. ولا توجد «هيئة رقابة»، أو «مجلس وصاية» لفرز المرشحين الذين قرروا ترشيح أنفسهم وشطب من لا ترغب فيه الدولة! و «جامع» أيضاً بمعنى الموافقة الشعبية، القريبة من الإجماع، على مشروع ميثاق العمل الوطني عام 2002 والذي قامت على أساسه المسيرة الديموقراطية ومؤسساتها الدستورية. هكذا فلا بديل إلا «المشروع الوطني الجامع» المتاح للعرب في مختلف مجتمعاتهم، إن اتصفوا بالحكمة وقوة الإرادة. فهل يتصفون؟! * كاتب من البحرين