من يتابع التحركات السياسية السورية في الأيام الأخيرة، يلمس بوضوح مدى الانشغال بأولويات استراتيجية. أولويات مترابطة يكمل أحدها الآخر، للمساهمة في صوغ مستقبل المنطقة. فسورية في قلب تحركات تتناول قضايا المنطقة: عملية السلام والجهود الأميركية على المسار الفلسطيني ومحاولات تحريك المسار السوري في ضوء وجود حكومة يمينية في إسرائيل ومنعكسات الفشل و «النجاح» على الأطراف المعنية وباقي الدول والملفات في المنطقة، مساعي القوى العراقية لتشكيل حكومة بعد مرور نحو ستة اشهر على الانتخابات البرلمانية، تشاور دمشق مع كل من طهرانوأنقرة في المجال الثنائي وإزاء ملفات المنطقة، ومساعي تطوير آليات العمل العربي وعلاقة الدول العربية مع الجوار وأولويات ذلك على جدول أعمال القمة العربية الاستثنائية في ليبيا بداية الشهر المقبل. ظهر في الأسابيع الأخيرة، اهتمام دولي بتحريك المسار السوري، وتم التعبير عن ذلك بقيام المبعوث الأميركي لعملية السلام السناتور جورج ميتشل برابع زيارة له الى العاصمة السورية منذ تعيينه، ذلك بعد ثلاثة أيام على إجراء المبعوث الفرنسي لعملية السلام جان كلود كوسران محادثات مع الرئيس الأسد، ذلك في أول مهمة يقوم بها الديبلوماسي المخضرم بعد تعيينه من قبل الرئيس نيكولا ساركوزي ل «المساهمة في جهود تحريك» المسار السوري. وعلى رغم انخفاض مستوى التوقعات السورية من حكومة نتانياهو، لا تزال دمشق على تمسكها بالسلام، حيث أكد الرئيس الأسد لميتشل «تمسك سورية بخيار السلام كونه السبيل الوحيد لضمان أمن واستقرار الشرق الأوسط» وأن السلام «لا يمكن أن يكون راسخاً ودائماً ما لم يكن عادلاً يعيد الحقوق كاملة إلى أصحابها على أساس قرارات الشرعية الدولية». هذا بالمعنى الواسع. وبينما جدد ميتشل أن إدارة الرئيس باراك أوباما «ملتزمة» تحقيق «السلام الشامل» على جميع المسارات بما فيها السوري واللبناني وأن تركيز الجهود الراهنة على المسار الفلسطيني «لا يتناقض ولا يتعارض» مع التسوية الشاملة والسلام السوري - الإسرائيلي وأن «التقدم على المسار السوري يساهم في التقدم على المسارات الأخرى» للمفاوضات، فان المعلومات الرسمية تفيد أن الأسد اعتبر أن «استئناف مفاوضات السلام يتطلب وضع أسس واضحة وضمانات لتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه». عليه، إن ما تطالب به دمشق من أجل تحقيق السلام «ليس تنازلات تقدمها إسرائيل بل أرضاً مغتصبة يجب أن تعود بالكامل لأصحابها الشرعيين» في تأكيد لاستعادة الجولان السوري المحتل. وكانت أنقرة رعت محادثات غير مباشرة بين دمشق وتل أبيب في النصف الثاني من عام 2008. وبينما كان الجانب التركي بصفته وسيطاً ينتظر الرد الإسرائيلي على مطالبة دمشق عبر أنقرة «تحديد» ست نقاط جغرافية لخط الرابع من حزيران (يونيو) 1967، شنت حكومة ايهود اولمرت عدواناً على غزة في نهاية 2008. وبحسب المقاربة السورية، فان المفاوضات غير المباشرة تبدأ من حيث توقفت وأهمية تركيا في ذلك باعتبار انها أدت «دوراً نزيهاً وموضوعياً»، ثم تشكيل «أرضية صلبة» للانتقال الى المفاوضات المباشرة في ظل دور أميركي حيوي وراعي للعملية. وخلال لقائه كوسران أكد الأسد «أهمية التنسيق مع تركيا في هذا الشأن من أجل البناء على ما تم التوصل إليه في المفاوضات غير المباشرة عبر الوسيط التركي». في هذا السياق، يتوقع أن يكون موضوع السلام أحد الأمور التي ستبحث خلال ترؤس وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو وفد بلاده الى الاجتماع الوزاري للمجلس الاستراتيجي مع سورية المقرر في اللاذقية الساحلية في الثالث من الشهر المقبل، ذلك انه أعلن في إسطنبول قبل أيام أن بلاده «ستقوم بكل شيء ممكن لإقامة سلام بين سورية وإسرائيل». ويرأس الوفد السوري معاون نائب الرئيس حسن توركماني بحضور عدد من الوزراء بينهم وزير الخارجية وليد المعلم. والى العلاقات الثنائية ومراجعة مدى التطور بتنفيذ 51 اتفاقاً وقعت خلال الاجتماع السابق العام الماضي لإعطاء دفع إضافي للتعاون في سياق إقليمي، يتوقع أن تتناول المحادثات السورية- التركية أيضاً تعزيز التعاون الاستراتيجي الذي يضم أيضاً لبنان والأردن، إضافة الأوضاع في العراق باعتبار أن هناك تنسيقاً بين كل من سورية وتركيا وإيران إزاء هذا الموضوع مع التأكيد على عدم التدخل في الشؤون الداخلية العراقية. وكان هذا الموضوع أحد الأمور التي بحثت خلال زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد السبت الماضي، حيث جرى التأكيد على «أهمية خروج العراق من أزمة تشكيل الحكومة حفاظاً على وحدته واستقراره وأمنه وإعادة إعماره بحيث يستعيد العراق قريباً دوره على الساحتين العربية والإقليمية ما يساهم في تعاون اقتصادي إقليمي مشترك». وكانت الأيام الأخيرة حملت جديداً بين دمشق ورئيس الحكومة العراقية نوري المالكي. وبحسب المصادر السورية، فان المالكي بعث عبر وفد من «ائتلاف كتلة القانون» برسالة خطية الى الرئيس الأسد تتعلق ب «العلاقات الثنائية وأهمية تعزيزها وتطويرها في المجالات كافة بما يخدم مصالح البلدين والشعبين الشقيقين» وأن الرئيس السوري أكد «الحرص الدائم على إقامة أفضل العلاقات مع العراق ودعم أمنه واستقراره ووحدة أراضيه وشعبه». كما أكدت القيادة المركزية ل «الجبهة الوطنية التقدمية» قبل يومين» عروبة العراق ووحدته أرضاً وشعباً وتشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل جميع مكونات الشعب العراقي ولا تستبعد أحداً لا سيما في ضوء الرسالة التي تسلمها الأسد من المالكي والتي يدعو فيها الى إقامة علاقات استراتيجية» بين البلدين. وبعدما اطلع وفد «ائتلاف القانون» دمشق على تطورات مساعي تشكيل الحكومة، أكد الأسد «دعم سورية أي اتفاق بين العراقيين يكون أساسه الحفاظ على وحدة العراق وعروبته وسيادته». عزز كل ذلك تجاوز المرحلة السابقة بين دمشق والمالكي، سبقته سلسلة من الخطوات والإشارات: أولاً، إقدام المالكي على إجراءات «بناء الثقة» وإدلاؤه بتصريحات إيجابية عن العلاقة مع سورية وقيام صحف سورية بإعادة بثها. ونقلت «سانا» عن المالكي قوله في تموز (يوليو) الماضي إن «هناك تطوراً كبيراً في العلاقة مع سورية وسنتجه للعلاقات الطيبة والتواصل في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية وتفعيل الجانب التجاري والخدمات المتقابلة والمصالح المشتركة». ثانياً، قيام وفد «تجمع كفاءات العراق» برئاسة علي الدباغ بزيارة دمشق قبل أسبوعين ولقاء مسؤولين سوريين وفق نصائح من أطراف عدة بضرورة تحسين العلاقة مع دمشق. ثالثاً، إقرار حكومة المالكي في 25 آب (أغسطس) الماضي مشروع مد أنابيب نفط وغاز من أراضي العراق وإيران الى الساحل السوري والبحث في ترميم أنبوب النفط بين كركوك وبانياس ثم قيام الخارجية السورية بالترحيب بذلك واعتباره «خطوة مهمة تطور العلاقات بين البلدين وتنشّط التعاون الاقتصادي المشترك بينهما». خامساً، إرسال المالكي رسالة خطية الى الأسد وتأكيده على «استراتيجية» العلاقات. رابعاً، اتصال رئيس الوزراء السوري محمد ناجي عطري هاتفياً بالمالكي وبحث «العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين وسبل تطويرها على الصعيدين السياسي والاقتصادي»، وتأكيد الجانبين «ضرورة العمل خلال المرحلة المقبلة على تنمية علاقات البلدين بما يحقق المصالح العليا للشعبين»، ثم تأكيد عطري في دمشق بعد اجتماع الحكومة الأسبوعي أن العلاقات بين البلدين ستشهد «انطلاقة جديدة». ويسجل لسورية انها اعتصمت بالحكمة منذ إقدام المالكي على توجيه اتهامات غير مستندة الى أدلة بإيواء «بعثيين» ومسؤولين عن تفجيرات دامية حصلت في آب العام الماضي. واكتفت بمقابلة سحب المالكي سفيره من دمشق بإجراء مماثل ونفي الاتهامات العراقية، مع قبولها جهود تركيا لضبط إيقاع التوتر وعدم التصعيد وعدم الدخول في حملات إعلامية لترك الخيارات مفتوحة لمصلحة أساسية العلاقة مع العراق. الأولوية، بحسب منظور دمشق، هي للسياسات والمبادئ ودعم حكومة وحدة وطنية من قبل العراقيين أنفسهم تضم جميع مكونات الشعب وتحافظ على «وحدة» العراق و «عروبته» و «استقلاله». وتستند كل كلمة من هذه الكلمات الى مبادئ سياسية كبيرة تتعلق برؤية مستقبل المنطقة. كما يهم دمشق الإفادة من تجارب المرحلة السابقة. إذ بعدما كان البلدان وقعا اتفاقاً للتعاون الاستراتيجي في منتصف العام الماضي، جرت عرقلة مسيرة تطوير العلاقات وتفويت فرص. لذلك، فان المرحلة المقبلة تستدعي تسريع إيقاع التعاون لتعويض «الفرص المضيعة». كما يهم دمشق، دعم الإقدام على خطوات عميقة لقيام جيش وطني ومؤسسات أمنية وطنية تملأ فراع انسحاب القوات الأجنبية منه وتساهم في تعزيز أمن العراق واستقراره وتحفظ سيادته ومنعته، بما ينعكس إيجاباً على العراق أولاً ودول الجوار ثانياً. ومن الطبيعي أن تكون الخطوة العملية الأولى، إقدام الحكومة العراقية على إعادة السفير الى دمشق ومقابلة سورية ذلك بالمثل، في سياق العودة الى السياق المأمول والمخطط في العلاقة. في سياق هذه النظرة الاستراتيجية للمنطقة، وضعت العلاقة السورية - اللبنانية على السكة الاستراتيجية الصحيحة بعد سنوات غير طبيعية. حيث عقدت اجتماعات «هيئة المتابعة والتنسيق» في دمشق في تموز الماضي برئاسة عطري ونظيره اللبناني سعد الحريري وجرى توقيع 17 اتفاقاً ومذكرة تفاهم وبروتوكولاً تنفيذياً. كما التقى الأسد مع الحريري في دمشق بضع مرات في الأشهر الأخيرة، حيث جرى التأكيد خلال اللقاء الأخير في نهاية آب الماضي على «الحرص على متابعة ما تم إنجازه على صعيد التعاون الثنائي ورغبتهما المشتركة في استمرار التشاور والتنسيق بما يخدم مصلحة شعبي البلدين ومصالح العرب جميعاً». وكانت سورية والسعودية أكدتا عبر الزيارة المشتركة للرئيس الأسد وخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وقمة بعبدا الثلاثية نهاية تموز الماضي «الحرص على لبنان ودعم وحدته الوطنية». وجرى التشديد خلال زيارة الحريري الأخيرة على «استمرار نهج التهدئة والحوار لحل المشكلات العالقة وأهمية تعزيز الوفاق الوطني ودعم المقاومة بما يحفظ قوة لبنان ومنعته ويحميه من الأخطار الخارجية التي تهدد أمنه واستقراره». في المنظور السوري، إن الأولويات الاستراتيجية هي الأساس التي يبنى عليها مستقبل الشرق الأوسط منطلقاً من طموحات دول المنطقة وثوابتها الوطنية. * صحافي سوري من أسرة «الحياة».